القواعد والضوابط في باب الشهادات : -
الشهادات في اللغة مشتقة من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عمّا شاهده.، أو لأنه مشاهد لما غاب عن غيره، وقيل : مشتق من الإعلام من قوله تعالى ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) أي علم .
واصطلاحاً: هي الإخبار بما يعلمه بلفظ أشهد، أو شهدت، وهذا هو المشهور من مذهب الأئمة الثلاثة - أبي حنيفة، ومالك ، وأحمد -.
والرواية الثانية عن أحمد : أنه لا يشترط في أداء الشهادة لفظ أشهد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وهو الأقرب. ويشكل عليه عدم التفريق بين شهادة الزور والكذب.، وقول الزور، فيكون كل من كذب في أمر مستقبل ، شاهد شهادة زور . - وفيه نظر -
والجواب : أن الشهادة : الإخبار بحق الغير على الغير- في مجلس الحكم على قول -.، وهي نوع من الكذب إذا كانت زوراً، ولكنها أخص منه.
والكذب : استعمال اللفظ في غير ما وضع له شرعاً - كما سبق -.
أما قول الزور : فهو الإخبار بأن له حقاً على غيره كذباً، وشهادة الزور : أن يدعي الإنسان أن للغير حقاً على الغير كذباً.
وشهادة الزور عند الفقهاء : هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى باطل ، وعلى هذا فيكون اشتراط كون ذلك في مجلس الحكم، ليس بشرط، وهو الأقرب لإطلاق النصوص.
وإذا كان من أجل التوصل بها إلى حق لا تعتبر زوراً ، كشهادة أن الأرض محياة قبل عام ١٢٨٥ه وهي لم تحيا إلا قبل شهادة الشهود، لأن ذلك من باب التوصل إلى حق لا إلى باطل ( من أحيا أرضاً ميتتة فهي له).
فالإذن الشرعي مقدم على الإذن الشخصي.
١ - الأصل أن لا يشهد الإنسان حتى يستشهد.
لحديث عمران بن حصين في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يكون قوم يشهدون ، ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن ).
ففيه ذم المبادرة بالشهادة قبل سؤالها، فيقيد هذا الحديث الإطلاق الوارد في قوله تعالى ( والذين هم بشهاداتهم قائمون ) حيث دلت الآية على القيام بالشهادة مطلقاً، قيدها الحديث بكون ذلك عند الدعوة إليها ،
ويستثنى من ذلك : عدم معرفة المشهود له بما عنده له من الشهادة، أو فيما إذا توقف على شهادته حق شرعي ، كرضاع، وطلاق ونحوهما . لحديث زيد بن خالد الجهني في صحيح مسلم ( ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها).
ولهذ كل ما تستدام به الحرمة التي لا تدفع إلا بالشهادة ، فالشهادة فيه واجبة.
٢ - كل ما لا تستدام فيه الحرمة من حقوق الله تعالى في الحدود ، فالأفضل فيه الستر - مالم يُدعى لأدائها ، أو كان متهتكاً- المجاهر بالمعصية غير مبالي بها أو بغيره -عند الحنفية والمالكية .
وذلك. كالزنى ، وشرب الخمر ، وذلك لحديث هذال في قصة ماعز حيث قال له صلى الله عليه وسلم ( هلا سترته بردائك) ، ولما رواه مسلم مرفوعاً( من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة ).
وغير الحدو من الشهادة المتعلقة بحق الله تعالى ، كالطلاق، والعتق، فيلزمه الأداء حسبة لله تعالى عند الحاجة إلى الأداء من غير طلب من العباد.
أما حقوق العباد التي لهم إسقاطها فلا يدلي بها إلا إذا طلبوا ، وإذا لم يكن عندهم علم بشهادته أخبرهم .
٣ - لا تقبل شهادة غير العدل في غير محل الإضطرار.
لقوله تعالى
frown رمز تعبيري
ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...)وفي قراءة ( فتثبتوا).
ولحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما ( لا تجوز شهادة خائن ، ولا خائنة ، ولا ذي غمر على أخيه ، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت ). رواه أبو داود وأحمد وغيرهما ، وحكم عليه الحافظ في التلخيص : أن إسناده قوي.
ولقوله تعالى (؟يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ..). فمن ضيع شيئاً مما أمر الله تعالى به، أو ارتكب ما نهى الله عنه، فلا ينبغي أن يكون عدلاً، فإنه إذا كان خائناً فليس له تقوى ترده عن ارتكاب محظورات الدين التي منها الكذب، فلا يحصل الظن بخبره، ولأنه مظنة تهمة، أو مسلوب أهلية .
والعدل : هو المسلم ،البالغ، العاقل، السالم من أسباب الفسق ، وخوارم المروءة .
وقيل : من غلب خيره شره، ولم يجرب عليه اعتياد كذب .
وقيل : من كان مؤدياً للفرائض، مبتعداً عن الكبائر، غير مداوم على الصغائر، وإذا ألم بصغيرة يستتر بها، ذا مروءة ، يتخلق بأخلاق مثله.
وكل هذه التعاريف متقاربة، لأن المراد بالتعريف التقريب، لا أن يكون جامعاً مانعاً، كما يقول الشاطبي.
وأما حديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه ابن دقيق العيد والألباني
فالعلة في ذلك : وجود التهمة لكونه أشهد بدوياً ولم يشهد قروياً، مع بعد البدوي وقرب القروي، يثير التهمة ويقويها، أو لكون عدالتهم غير معروفة، ولذا شهادة الأعرابي على غير القروي إذا كان عدلاً مقبولة ، لحديث ابن عباس : أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : رأيت الهلال ، فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟) قال : نعم ، قال ( أتشهد أن محمداً رسول الله) قال : نعم . قال : ( فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً). والبدوي : هو من لم يسكن القرية والمدينة، وإنما سكن البادية.
٤ - كل من وجدت التهمة بشهادته ، فشهادته مردودة.
لحديث عبدالله بن عمرو السابق وفيه ( ولا ذي غمر على أخيه- وهو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة- ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت - التابع لأهل البيت، ينتفع بما يصير إليهم ، كالأجير الخاص -).
ولأن العلماء أجمعوا - كما ذكر ابن رشد - على رد شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، وكذا الأم لابنها ، وابنها لها، لتهمة القرابة.
وعلى هذا لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه عند أكثر العلماء، لوجود التهمة، إذ إن كلاً منهما يتوسع ويتبسط في مال الآخر.
وكذا لا تقبل شهادة من عرف بعصبية، أو إفراط حمية، لحصول التهمة بذلك.
٥ - كل من جرّ إلى نفسه بشهادته نفعاً، فهي مردودة.
كمن شهد لرجل على شراء دار وهو شفيعها،
وكمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس، فشهد للمفلس على رجل بدين ، ونحو ذلك.
لحديث عبدالله بن عمرو السابق وفيه ؟ ( ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت) لأنه يجر بشهادته لهم نفعاً له. وكذا بقية الأدلة الدالة على رد الشهادة عند وجود التهمة.
٦ - لا تجوز الشهادة إلا عن علم أو غلبة ظن .
لقوله تعالى ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) ، ولقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) والعلم لا يشترط أن يكون بالمشاهدة والعيان ، فمن الشهادة ما يكون طريقه التواتر، ًوالاستفاضة ، كالنسب والملك، والموت، والوقف، .
وتجوز الشهادة على غلبة الظن ، كما في حديث القسامة ( يقسم منكم خمسون رجلاً أن فلاناً قتله ، فيأخذونه برمته ).
وأما حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه ٌوسلم قال لرجل ( ترى الشمس ؟) قال : نعم ،قال : ( على مثلها فاشهد، أو دع) فضعيف، أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى/ مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق