الفرق بين الهزل والكذب والمجاز . فالهزل : هو ما يراد به اللفظ والمعنى على سبيل الهزل - لا على سبيل الجد - ، وقيل : إرادة اللفظ لا المعنى ، والأول أصح . لأن معنى الهزل أن يراد بالشيء مالم يوضع له . فالهزل في اللغة اللعب وهو ضد الجد. فالجد : هو ما يتكلم به المتكلم قاصداً اللفظ والمعنى . والهازل : أراد اللفظ والمعنى ولم يرد الحكم . والكذب : استعمال اللفظ في غير ما وضع له بلا قرينة . والمجاز : استعمال اللفظ في غير ما وضع له أصلاً بقرينة . والقرينة قد تكون حالية، وقد تكون مقالية ، أما الحالية فهي ما إذا عٌلم أو ظٌن أن المتكلم لا يتكلم بالكذب ، أو أقترن الكلام بهيئات مخصوصة قائمة بالمتكلم ، أو عٌلم أنه لم يكن للمتكلم داع إلى ذكر الحقيقة، أو نحو ذلك فيٌعلم أن المراد هو المجاز. أو يقال : إن الكاذب لفظه ليس مطابقاً لما استعمله فيه سواء كان حقيقة أو مجازاً. والمتجوز : لفظه مطابق لما استعمله فيه ، سواء كانت معه قرينة أم لا . وهذا أصح ، لأن المجاز قد يكون كذباً وقد يكون صدقاً، والحقيقة كذلك. فمقابل الحقيقة المجاز ، ومقابل الهزل الجد. وعلى هذا فإن من أخبر أنه رأى امرأة تزني وليس عنده شهداء أربعة ، فهو كاذب ، لأن لفظه ليس مطابقاً لما استعمله فيه شرعاً. ولذا قال تعالى ( فأن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) أي في حكم الله تعالى وعلى التعريف الأول للكذب ،نقول إن كان صادق لغة فهو كاذب شرعا . ولهذا ذكر النووي والغزالي قاعدة : وهي كل مقصود صحيح لا يتوصل له إلا بالكذب - على التعريف الأول - كان الكذب فيه جائزاً- وعلى التعريف الثاني لا يعتبر كذباً،لأن لفظه مطابق لما استعمله فيه شرعاً، وكل من كان لفظه مطابقاً لما استعمله فيه شرعاً فهو صادق .لأن الدلالة الشرعية مقدمة على الدلالة اللغوية. ويدل على ذلك قول الملَك للأبرص ( إني فقير وابن سبيل ولا بلاغ لي إلا بالله ثم بك ..) فإن لفظه مطابق لما استعمله فيه وهو إرادة الاختبار ، وحديث سويد بن حنظلة لما قبض العدو على وائل بن حجر حلف أنه اخوه قلل صلى الله عليه وسلم ( أنت أصدقهم وأبرّهم ، صدقت المسلم أخو مسلم ) وعلى التعريف الأول : مقصود صحيح لا يمكن التوصل له إلا بالكذب فكان الكذب فيه جائزاً ، ونظائر ذلك كثير من الكتاب والسنة . واما ما يتعلق بالجد والهزل فقد روى الأربعة إلا النسائي وغيرهم من طريق عبدالرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة) وابن أدرك ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في ثقاته، وضعفه ابن معين وابن المديني، وقال النسائي: منكر الحديث . وتوثيق ابن حبان لا يوثق به إذا انفرد كما بينه الحافظ في مقدمة اللسان ، هذا إذا لم يخالف، فكيف وقد خالفه النسائي كما تقدم . وقد رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وقال الترمذي : حديث حسن غريب والعمل عليه عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم و حسنه الحافظ في التلخيص والألباني بمجموع طرقه . وأما ( العتاق) بدل الرجعة فلم تصح ، في سندها / غالب بن عبيدالله الجزري له أحاديث منكرة المتن، قال ابن معين : ليس بثقة وقال : الدارقطني وغيره : ( متروك) . وعلى الرواية الأولى لهذا الحديث يتبين أن العقود لا تنعقد عن هزل إلا هذه الثلاث ( النكاح والطلاق والرجعة) ويقاس على هذه الثلاث عند الشافعية : كل تصرف ، ينعقد بالهزل لأن ترتب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد ، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه ولقوله تعالى ( ولا تتخذوا آيات الله هزواً ) أي لا تتخذوا أحكام الله في طريق الهزاء فإنها جد كلها فمن هزل فيها لزمته . والجواب عنه : بأنه لا يلزم من النهي عن اتخاذ آيات الله هزواً لزوم ما قاله هزواً فلا بد من انعقاد القلب عليه إلا ما استثني ( النكاح والطلاق والرجعة ) لقوله تعالى ( لا يؤخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) ولقوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات) ولقوله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه ) فكيف نأخذ مال رجل قال وهبتك بيتي يافلان مازحا لوجود القرائن الدالة على ذلك ولم تطب نفسه به . - كيف يؤاخذ الإنسان بلفظ جرى على لسانه بدون قصد - ولا يفرق بين حقوق الله وحقوق المخلوقين إلا بدليل ( أريت لو كان أمك دين أكنت قاضيته ) . بل قال المالكية : لا يصح نكاح الهازل لأن الفرج محرم فلا يصح إلا بجد ، وإذا صح الحديث فلا عبرة بمن خالفه . هذا وقد اختلف العلماء فيمن سئل عن طلاق زوجته أطلقتها ؟ فقال : نعم كاذباً، فمن أهل العلم من قال يقع الطلاق عليها قياساً على طلاق الهازل بجامع أنه قصد اللفظ ولم يقصد المعنى ، والصحيح عدم الوقوع بناءً على التقعيد السابق ، لأن الأصل عدم وقوع شيء لم ينعقد عليه القلب إلا ما استثني ( النكاح والطلاق والرجعة ) عند من صحح الحديث. فهناك فرق بين الهزل والكذب في الطلاق.
كتبه / محمد بن سعد العصيمي / عضو هيئة التدريس / كلية الشريعة / جامعة أم القرى/ في ١٤٣٦/٨/٨
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق