حكم إقامة المسلم في بلد الكفار مع إمكانية إظهار دينه:
إذا كان المسلم متمكناً من إظهار دينه من صلاة وصيام وأذان، وجميع شعائر دينه الظاهرة، في بلاد الكفار، فهل تجب عليه الهجرة:
* من أهل العلم من استحب له الهجرة ولم يوجبها عليه، والحالة تلك، كالحنابلة في مذهبهم.
وذلك لما في لحوقه بالمسلمين من الجهاد في سبيله، وتكثير سواد المسلمين.
والأرجح: عدم جواز استيطانه في بلاد الكفار مع قدرته على الهجرة ما لم تكن هناك مصلحة راجحة في بقائه، لدعوة أو علاج، أو اضطرار، أو نحو ذلك - فيكون جواز بقائه حتى انتهاء تلك المصلحة الراجحة -.
وذلك للأدلة التالية:
١ - أن في استيطان المسلم في بلاد الكفار، عدم قدرة على تطبيق دينه من الحكم والتحاكم إلى غير شريعة الله تعالى، وذلك عند اختلافه مع غيره.
٢ - أن شيوع شعائر الكفر، والمعاصي مع عدم قدرته على إنكارها، وقدرته على مفارقة مكانها، دليل على وجوب هجرته، لقوله تعالى: {فلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
ويعتبر ذلك من الظلم لنفسه وأهله وَذُرِّيَّتِهِ، وقد قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّامسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
ولهذا أوجب مالك وغيره من أهل العلم، وجوب الهجرة من بلاد المسلمين التي ظهرت فيها المعاصي ولم يستطع إنكارها.
فإذا كان هذا في بلاد المسلمين، ففي بلاد الكفار الهجرة أوجب.
٣ - إن القول بإمكانية إظهار شعائر الدين في بلاد الكفار، غير متحقق مطلقاً، قد يكون ذلك في شيء أو أشياء، لا مطلقاً، وذلك كالتحاكم إلى غير شرع الله، والتدخل فيما يتعلق بحقوقه مع زوجه وولده، وولايتهم، وتزويجهم، فالقوانين الوضعية في تلك البلاد لها أثر على حياته في بلادهم.
وكذا ما يتعلق بإنكار شعائر الكفر والفسق، فإنه غالباً غير متحقق.
قال المالكية: بوجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.
وقال الشافعية: أن كل من أظهر حقاً ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره أو خاف فتنة فيه، فتجب عليه الهجرة منه.
لأن المقام على مشاهدة المنكر منكر، ولأنه قد يبعث على الرضا به.
وَقَدْ ذَكَرَ الْهَيْتَمِيُّ فِي التُّحْفَةِ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا إِذَا ظَهَرَتْ فِي بَلَدٍ بِحَيْثُ لاَ يَسْتَحْيِي أَهْلُهُ كُلُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ، لِتَرْكِهِمْ إِزَالَتَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَتَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الإِْقَامَةَ حِينَئِذٍ مَعَهُمْ تُعَدُّ إِعَانَةً وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الاِنْتِقَال لِبَلَدٍ سَالِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَلاَّ يَكُونَ فِي إِقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ الْمُؤَنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحَجّ.
- والذي يظهر رجحانه:
أن الهجرة من البلدة التي تظهر فيها المعاصي من بلاد المسلمين ليست بواجبة إذا قام بما يستطيع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن بلاد الكفار غالباً لا يستطيع ذلك، فيكون غير مستطيع لإظهار دينه.
٤ - أن مفسدة استيطانه في بلاد الكفار أعظم، لما فيه من تكثير سواد المشركين، وترك واجب إنكار الطاغوت والمعاصي، وأثر ذلك على ضعف دينه، وأثره على ذُرِّياته وَأَزْوَاجِهِ ولو بعد حين، اللهم من كان مصلحة بقائه أعظم نفعاً للإسلام والمسلمين، فهذا يستثنى ما بقيت تلك المصلحة، فإذا زالت زال الحكم بزوالها.
قَالَ الشَّافِعِيُّ في كتاب الأم: دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ بِالْبَلَدِ الَّذِي يُسْلِمُ بِهَا. اهـ.
ولا فرق في هذا الحكم بين بلاد الكفر وبين بلاد الإسلام التي يغلب عليها الشر والفساد، وتشيع فيها الفواحش.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة، كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة، والله تعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ} اهـ.
* مع العلم أنه لو فرض قدرة المسلم في دار الكفار، على إظهار دينه كله بلا مضايقة ولا تحكيم أو تحاكم لغير شرع الله تعالى، وبلا مفسدة راجحة، فلا بأس مع أنه خلاف الأولى؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
فالذين آمنوا ولم يهاجروا من دار الكفر، فلسنا مكلفين بحمايتهم ونصرتهم حتى يهاجروا، وإن وقع عليهم ظلم من الكفار فطلبوا نصرتنا نحن المسلمين، نستجب لهم، إلا على قوم بيننا وبينهم ميثاق لم ينقضوه.
تنبيه:
في حديث أنس رضي الله عنه : "أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا يغزو إذا طلع الفجر، فإن سمع أذاناً كف، وإلا أغار".
ذكر الأذان ههنا من باب التمثيل على ما تعرف وتميز به البلدة المسلمة من غيرها،
والقاعدة: ما خرج مخرج التمثيل فلا مفهوم له.
فإذا علمت أن البلدة مسلمة بأي علامة تميزها عن بلاد الكفار، أو عرفت من غير علامة أنها مسلمة فهو كاف في كونها من بلاد المسلمين.
والقاعدة: الاستدلال بالعلامة والحكم بما دلت عليه مقرر في العقل والشرع -كما تقدم في القواعد-.
فذكر الأذان ههنا من باب القرائن والعلامات على البلدة التي جهل حالها بإسلام أو عدمه.
وذكر الأذان ههنا من باب التمثيل على إمكانية إظهار الدين.
وضابطه: كل ما وجب على الإنسان فعله شرعاً، بحيث يكون قادراً على إظهاره، بحيث لا يمنعه مانع، ولا يلحقه به أذى، فهو المتمكن من إظهار دينه.
والله تعالى أعلم .
كتبه/ محمد بن سعد الهليل العصيمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق