قاعدة: نفي شيء من الأشياء المذكورة في النص، دليل على مشروعية ما لم ينكر منها.
** * ** * **
حكم قول:
١ -ندخل بالله عليك- أي نجعل الله شفيعاً عندك لتقبل طلبنا.
٢ -جاه الله عليك- يجعل جاه الله -منزلته، ومكانته، وعظمته- شفيعاً عند المخلوق.
٣ -شفاعتنا هو الله- أي أن الله شفع لهم عند المخلوق فقبلها المخلوق.
** * ** * **
كل هذه الألفاظ محرمة، ولا تجوز؛ لأنه لا يستشفع بالله عند أحد من خلقه.
* وليس هذا أيضاً من تعظيم الله تعالى
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر:67]، أي: عظموه حق تعظيمه.
وكون المعنى غير مراد للمتكلم، لا يعني جواز اللفظ الذي يدل على معنى غير صحيح.
* فيجب حماية التوحيد، وكل لفظ ينافي التوحيد، أو كماله، ينهى عنه.
فالواجب تعظيم الله، وتقديره حق قدره.
قال
تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [سورة يس:82]، فلا يكون الله
تعالى شفيعاً عند أحد من خلقه، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد،
ومشيئة
الخلق تابعة لمشيئة الله تعالى، ما أراده الله يكون، وما لم يرد لا
يكون، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [سورة التكوير:29].
** * ** * **
*
عن جبير بن مطعم قال: «جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، نهكت
الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله
عليك، وبك على الله. فقال النبي ﷺ: "سبحان الله! سبحان الله!" فما زال يسبح
حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: "ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم
من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد" وذكر الحديث، رواه أبو داود. وفي
الحديث عنعنة ابن إسحاق، وجهالة جبير بن محمد؛ فإنه لم يوثقه غير ابن حبان، وللحافظ ابن عساكر جزء سماه: "بيان وجوه التخليط في حديث الأطيط".
فهذا مما ينقص ثواب التوحيد.
ولأنه
من وسائل الشرك وهو الاستشفاع بالله على خلقه، لأن شأن الله أعظم من ذلك،
فلا يستشفع بالله على خلقه، فهو سبحانه فوق ذلك وأعظم جل وعلا، فلا يستشفع
بالله على أحد من خلقه، ولا يجوز أن يقال: أستشفع بالله عليك يا فلان،
ولكن يستشفع بالمخلوق على المخلوق، فيقال: يا فلان أنا استشفع بفلان عليك
ما في بأس، أما على الله لا، لا يقال: أستشفع بالله عليك يا فلان، لأن شأن
الله أعظم من ذلك، ومن شأن المستشفع به إلى المشفوع إليه أن المشفوع أعظم،
وهذا لا يليق، فإن الله فوق الجميع، وأعظم من الجميع، فلا ينبغي لعاقل أن
يستشفع بالله على خلقه، ولكن يسأله بأسمائه وصفاته ويضرع إليه في طلب
حاجاته، أما المخلوقون فلا يستشفع إليهم بالله، وإنما يستشفع إليهم ببعضهم
بعضاً، كأن يستشفع إليه بأبيه، بأخيه، بعمه، بمن يعز عليه أن يعطيه كذا، أو
يعينه على كذا، أو ما أشبه ذلك، وهذا من عادته ﷺ إذا سمع ما يكره قال:
سبحان الله، سبحان الله، أو الله أكبر الله أكبر، وقد يقول ذلك عند الأمر
العظيم أيضًا، وهكذا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يقولون ذلك، فإنه لما
قال بعض الصحابة: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: "الله أكبر
الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا
إلها كما لهم آلهة" استعظم هذا لأنه من طلب الشرك، استعظم هذا وحذرهم منه
بهذا الكلام العظيم الذي يريد الزجر والتحذير، ثم قال: الله أكبر يبين أن
هذا الأمر لا يليق، ولما قال النبي ﷺ: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة
قال ابن مسعود: فكبرنا، ولما قال: أرجو أن تكون ثلث أهل الجنة كبرنا، قال:
إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة فكبرنا، من باب تعظيم هذا الأمر والفرح
به والسرور به، فهذا التكبير والتعظيم عند ذكر العظيم المحبوب وعند ذكر
العظيم المكروه المنهي عنه، فيقال: سبحان الله، والله أكبر، عند هذا وعند
هذا، عند المحبوب فرحاً به، وعند المكروه إنكاراً له، ومن هذا نستشفع بالله
على خلقه من باب الإنكار وبيان أنه لا يليق أن يستشفع بالله على أحد من
خلقه.
وجرت عادة جمع من العلماء: ذكر الحديث الواضح
في الباب ولو كان ضعيفاً، ثم ذكر الأدلة الصحيحة التي تدل على معناه، إذا
كان المعنى صحيحاً.
** * ** * **
قوله :
نهكت الأنفس: أي ضعفت الأبدان.
فاستسق لنا ربك: أي فاطلب لنا منه السقيا
وهو المطر.
فإنا نستشفع بالله عليك: أي أن الأعرابي يريد بجهله أن يجعل
الله شفيعا إلى رسوله.
وبك على الله: أي وبك نستشفع إلى الله عزوجل.
سبحان الله! سبحان الله: أي الله أعظم وأجل من أن يتخذ شفيعا إلى أحد؛ لأن
الكل ملكه وتحت تصرفه المطلق.
ويحك: ويحك كلمة تقال عند الزجر.
** * ** * **
وفيه
من الفوائد :
-
جواز طلب الدعاء من الأحياء.
- وتحريم طلب السقيا من غير
الله.
- ومشروعية الدعاء وإثبات نفعه.
- و بيان مضار الجهل.
- وجوب إنكار
المنكر.
- وجوب تنزيه الله عما لا يليق بجلاله.
- وتحريم الاستشفاع بالله على
أحد من خلقه.
- استشفع بالشيء أي: جعله شافعا له،
والشفاعة في الأصل: جعل الفرد شفعا، وهي التوسط للغير بجلب منفعة له أو
دفع مضرة عنه -.
و الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله عز وجل لأنه جعل
مرتبة الله أدنى من مرتبة المشفوع إليه؛ إذ لو كان أعلى مرتبة ما احتاج أن
يشفع عنده، بل يأمره أمراً والله عز وجل لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد؛ لأنه أَجَلّ وأعظم من أن يكون شافعا، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك على الأعرابي.
* فإن قيل: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من
سأل بالله فأعطوه" وهذا دليل على جواز السؤال بالله؛ إذ لو لم يكن السؤال
بالله جائزا لم يكن إعطاء السائل مشروعاً؟
والجواب أن يقال: إن السؤال
بالله لا يقتضي أن تكون مرتبة المسئول به أدنى من مرتبة المسئول بخلاف
الاستشفاع، بل يدل على أن مرتبة المسئول به عظيمة، بحيث إذا سئل به أعطى.
على أن بعض العلماء قال: "من سألكم بالله" أي: من سألكم سؤالا بمقتضى
شريعة الله فأعطوه، وليس المعنى من قال: أسألك بالله. والمعنى الأول أصح،
وقد ورد مثله في قول الملك: "أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن".
تنبيه:
أنه لم ينكر عليه قوله: "نستشفع بك على الله": لأنه قال: لا يستشفع بالله
على أحد، فأنكر عليه ذلك، وسكت عن قوله: "نستشفع بك على الله"، وهذا يدل
على جواز ذلك، وهنا
* قاعدة وهي: إذا جاء في النصوص ذكر أشياء، فأنكر بعضها وسكت عن بعض، دل على أن ما لم ينكر فهو حق.
* قاعدة: نفي شيء من الأشياء المذكورة في النص، دليل على مشروعية ما لم ينكر منها.
بمعنى: إذا جاء في النصوص ذكر أشياء، فأنكر بعضها وسكت عن بعض؛ دل على أن ما
لم ينكر فهو حق.
مثال ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف:28]، فأنكر قولهم: {وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا} وسكت عن قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} فدل على
أنها حق، ومثلها عدد أصحاب الكهف، حيث قال عن قول: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [سورة الكهف:22].
وسكت عن قول: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
قال ابن عباس: أنا من القليل الذين يعلمونهم، هم سبعة ثامنهم كلبهم.
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي / كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق