حكم نفقات المضاربة:
حكم اشتراط نفقة المضاربة -في الدابة وغيرها- على العامل:
حكم من أعطى دابته لغيره على أن يضمرها ويعلفها، والجائزة للعامل، وهما شركاء في ثمنها بنصيب مشاع عند ارتفاع سعرها لسبقها:
------
تخريج هذه الصورة وتكييفها على أنها مضاربة: يشكل عليه ما يلي:
١- فيها مشاركة بعروض.
والجواب: وإن منع الجمهور منه، إلا إن الأرجح الجواز بشرط التنضيض: وهو تحويل العروض إلى نقد، فتقدر بالنقد عند أول عقد المضاربة، بحيث يكون المال معلوماً بالنقد.
٢- فيها مشاركة بدين.
وهو قيمة تعليف الدابة.
والجواب: وإن منع الجمهور من المضاربة بالدين، إلا أن الأصح: الجواز، لثبوت المال في الذمة بمجرد التزامه بذلك النقد الذي اتفق فيه الطرفان على المشاركة به، ولا يمنع من المشاركة بالدين نص أو وجود محظور -كما نصر ذلك ابن القيم رحمه الله-.
٣- فيها تحمل النفقات من قبل العامل.
(فيها حماية رأس المال بتحمل النفقة من قبل العامل).
وحماية رأس المال يكون في الربح، فإن لم يمكن لعدم وجود ربح، فمن رأس المال الذي دفعه رب المال لا على العامل.
والجواب: أن نفقات مال المضاربة، يتحملها رب المال، بمقتضى العقد الشرعي في المضاربة، وكل شرط يخالف مقتضى العقد الشرعي لا يصح، فيكون وجود هذا الشرط كعدمه، وحتى لا يكون ذلك وقاية للربح ورأس المال، وعليه فالشرط فاسد، فيقدر ما أنفقه العامل، ويعود به على رب المال.
٤- فيها عدم المشاركة في الربح من قبل رب المال في الجوائز التي تفوز بها، وكل ما يمنع أحد طرفي عقد المضاربة من نصيبه المشاع فهو ممنوع.
والجواب: أن الشرط يترتب عليه حرمان من له الحق بموجب العقد الشرعي بالشرط الفاسد، فكما لا يصح سلامة أحدهما من الخسارة، فكذا لا يصح حرمان أحدهما من الربح بموجب الشرط المخالف للشرع.
لأن الأصل فيها المشاركة في الربح والخسارة.
وشرط ما يخالف ذلك، شرط يخالف مقتضى الشرط الشرعي.
٥- فيها مشاركة بجزء من نماء ربح المال.
والجواب: أن هذا من قبل المشاركة كالمزارعة والمساقاة، وليس ذلك من باب الإجارة.
وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من الثمر).
وعليه تصح هذه الصورة على أن يكونوا شركاء في الربح من جوائز، وشطر ما يرتفع به ثمنها، بنصيب مشاع، والنفقة على الدابة تكون من الربح قبل تقسيمه، فإن لم يُوَف رجع بما بقي على رأس المال، والقاعدة: تصحيح العقد أولى من إبطاله.
وهي من فروع قاعدة: إعمال الكلام أولى من إهماله.
___
وتخريج هذه الصورة وتكييفها على أنها جعالة:
فمثلاً: إذا ضمرت ناقتي وعلفتها، فلك جوائزها إذا فازت أو سبقت، ولك نصف ثمنها عند بيعها.
يشكل عليه ما يلي:
١- أنها مع معين، والجعالة تكون مع غير معين.
والجواب: أن الجعالة لا يمنع من صحتها، كونها مع معين، كقولك: إذا رردت ضالتي التي فقدتها فلك كذا وكذا، وهي كقولك: من رد ضالتي فله كذا وكذا.
فالصيغة الأولى فيها جهالة بحصول الفعل من عدمه.
والصورة الثانية فيها جهالة العامل.
وعليه فالجعالة تصح مع جهالة العامل، وجهالة الوقت -وقت العمل- ومقداره.
٢- أن فيها مشاركة بمال من قبل العامل، وهو التعليف.
والجواب: أن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، وهو هنا دفع مالاً لغيره ليتجر به على نصيب مشاع من الربح، مع مخالفات شرعية تفسد الشرط ولا تفسد العقد.
والجمهور على فرض فساد عقد المضاربة، يعتبرون للعامل أجرة المثل، والربح كله لرب المال.
وعلى القول الأخر: يكون للعامل سهم المثل أو أجرة المثل، والمرجع في تحديد كونه سهم المثل أو أجرة المثل، هو العرف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومع ذلك ففي الصورة السابقة فسد الشرط المخالف للشرط المقتضى من الشارع، وصح العقد.
والقاعدة: لا عبرة بالشرط الشخصي عند مخالفته للشرط الشرعي. فصورة المسألة إلى المضاربة أقرب بكثير من كونها جعالة.
والقاعدة في القياس: إلحاق النظير بنظيره.
وإلحاق المسألة بأكثرها شبهاً أولى من إلحاقها بأقلها شبهاً.
وإذا تردد الفرع بين أصلين ألحق بأكثرهما شبهاً.
* والجَعيلة: لغة من الجعل.
وعرَّفها المالكية: بأن يجعل الرجلُ للرجل أجرًا معلومًا، ولا يَنقُده إيَّاه؛ على أن يعمل له في زمن معلوم أو مجهول، مما فيه منفعة للجاعل، على أنه إن أكمل العمل كان له الجُعل، وإن لم يتمَّه فلا شيء له، مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بعد تمامه.
وعرَّفها الشافعية: بأنها التزامُ عوض معلوم، على عمل معيَّن معلوم، أو مجهول يَعسُر ضبطه.
وعرَّفها الحنابلة: بأنها تسميةُ مال معلوم لمن يعمل للجاعل عملًا مباحًا، ولو كان مجهولًا، أو لمن يعمل له مدة ولو كانت مجهولة
و قد عرَّفها المالكية : بأنها الإجارة على منفعةٍ مظنون حصولُها؛ مثل قول القائل: مَن ردَّ عليَّ دابَّتي الشاردة، أو متاعي الضائع، أو بنى لي هذا الحائط، أو حفر لي هذا البئر حتى يصل الماء، أو خاط قميصًا أو ثوبًا - فله كذا.
فياحظ من تعريفاتهم أن المال من الجاعل ، والعامل لا يشارك بشيء من المال ، فإن شارك في المصروفات بموجب العقد عند الإيجاب والقبول فهي مضاربة، لوجود الشراكة والحالة تلك. فلما كانت هذه الصورة فيها مع العمل بذل مال -وهو تعليف الدابة- ، توجه كونها مضاربة لا جعالة.
والقاعدة: كل عقد يجوز تصحيحه على وجه شرعي، أولى من إلغائه.
وذلك لأن إعمال الكلام أولى من إهماله.
والله تعالى أعلم .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي / كلية الشريعة/ جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق