حكم بيع الأمانة:
يسمى عند الحنفية أيضًا: "بيع الإطاعة أو الطاعة، و"بيع الأمانة، و"بيع الجائز، و"بيع المعاملة، و"الرهن المعاد، ويسمى في المذهب المالكي "بيع الثنيا، وعند الشافعية يسمى "بيع العهدة، والحنابلة يسمونه "بيع الأمانة.
وهو: البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع.
وهذا البيع يتضمن المحاذير التالية:
١- أن حقيقة بيع الأمانة قرض جر نفعًا، فهو حيلة للتوصل للربا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (أما بيع الأمانة الذي مضمونه اتفاقهما على أن البائع إذا جاءه بالثمن أعاد عليه ملكه ذلك ينتفع به المشتري بالإجارة والسكن ونحو ذلك: هو بيع باطل باتفاق العلماء إذا كان الشرط مقترنـًا بالعقد. وإذا تنازعوا في الشرط المقدم على العقد: فالصحيح أنه باطل بكل حال، ومقصودهما إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل ومنفعة الدراهم هي الربح).
٢- في هذه المعاملة: الجهل في وقت رد البيع، والجهالة نوع من الغرر، نهى الشارع عنه.
وقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر).
ووجه: أن البائع لا يدري هل ترد عليه السلعة أم لا، وعلى فرض الرد لا يدري هل يكون بعد سنين أم أيام أم شهور.
وفِي الحديث: (نهى عن الثنيا إلا أن تعلم) وهنا المدة غير معلومة.
٣- أن في بيع الأمانة: منافاة لمقتضى العقد ومقصوده.
ووجهه: أن البائع له أن يتصرف في الثمن بعد تمام العقد، وقد لا يكون له مال إلا ثمن تلك السلعة التي تم بيعها بهذه الطريقة -بيع الأمانة أو الوفاء، فيكون حابساً هذا المال مطلقاً تحسباً للرد في أي حين، وليست المدة فيه محددة، وهذا يجعل ملكه معلفاً على أجل غير معلوم كما سبق، فعقد البيع مقصوده الملك وحرية التصرف.
٤- وفِي هذه المعاملة: جمع بين سلف وبيع. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع فقال: (لا يحل سلف وبيع).
وقد أجمع الفقهاء على المنع من ذلك، وبيع الأمانة يجمع بين السلف والبيع؛ "لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف; إن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجئ كان بيعًا".
ولهذا ذهب الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى تحريم هذه المعاملة.
خلافاً للحنفية حيث قالوا بالجواز:
١- لأن عامة الناس بحاجة لبيع الوفاء، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، فهو كالاستصناع أبيح لحاجة الناس.
والجواب: بأن النهي عن بيع الوفاء؛ لأنه قرض جر نفعًا؛ فهو ربا، وأما الاستصناع فالنهي عنه لما فيه من الغرر، وفرق بين الربا والغرر.
والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة: هي التي دلّ الدليل عليها، أو كانت في معنى ما دلّ الدليل عليه، أو كانت أولى مما دلّ الدليل عليه، وما لا فلا -وقد سبق بيان أقوال العلماء في هذه القاعدة، وبيان الراجح في كتابنا القواعد-.
٢- ولأن حقيقة بيع الوفاء عبارة عن رهن مقابل الدين، والرهن يجوز الانتفاع به بإذن مالكه، وقد أذن له في ذلك.
والجواب: أن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، والمعنى: دين يتضمن منفعة للمقرض، فيكون حراماً من القرض الذي جرّ نفعاً، ولو كان انتفاعاً لا يتضمن محذوراً لكان جائزاً (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يشرب ويركب النفقة). فغاية الرهن توثيقية فقط، أما بيع الوفاء فغايته توثيق الدين وانتفاع الدائن بالعقارأو السلعة، وهو باطل؛ لأنه شرط رهنًا ينتفع به زيادة على الدين فصار قرضا جر منفعة.
٣- ولأن الناس تعاملوا ببيع الوفاء، والقواعد تترك بالتعامل، وجرى التعامل به في غالب بلاد المسلمين، وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره من يقول به من العلماء.
والجواب: بأنه لا يسلم بأن القواعد تترك لأجل التعامل، وتعامل الناس لا يبيح المحظور، وقد أنكر جمهور العلماء بيع الوفاء على مر العصور، ولم يبيحوه لجريان العادة به، بل ردوه لمخالفته للشرع؛ فالعادة محكمة ما لم تخالف الشرع، وبيع الأمانة مخالف للشرع.
٤- ولأن بيع الوفاء جائز قياسًا على البيع بشرط الخيار المؤبد الذي أجازه الحنابلة.
والجواب: أن البيع بشرط الخيار المؤبد مختلف فيه، ومن شروط القياس أن يكون الأصل متفقًا عليه.
والأرجح: أن شرط الخيار المؤبد لا يصح على الصحيح من المذهب الحنبلي، وكذلك لا يصح عند المذاهب الفقهية الأخرى، بل نقل الإجماع على منعه، لأنها مدة ملحقة بالعقد، فلا تجوز مع الجهالة؛ كالأجل؛ ولأن اشتراط الخيار أبدًا قد يقتضي المنع من التصرف على الأبد، وذلك ينافي مقتضى العقد، فلم يصح.
وبعد هذا العرض يتبين عدم جواز بيع الأمانة.
* وبهذا العرض يتبين حكم صورة توجد في زمننا هذا وهي معاملة: نشتري منك قطعة ذهب بألف ريال، ونحجزه شهراً وترجع وتشتريه منا بألف ومائة.
* حقيقتها: نقرض ألف ريال، وترهن عندنا ذهباً، وتردها ألف ومائة.
وهذا هو عين الربا. فهذا صورة الربا أصرح من بيع الأمانة.
- وحقيقتها: أعطيك ذهباً بألف على أنه لك وإذا رردته رددنا لك الألف، ونأخذ منك مائة ريال زيادة على الثمن -فالربح للمقرض هي مائة ريال-.
فيجب الحذر من هذه المعاملة، لكونها صورة من صور الربا.
والله تعالى أعلم.
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق