حكم المراصة في صف الصلاة:
حكم صلاة المنفرد خلف الصف:
————
صورة المسألة: رجل صف في أيمن الصف، وهناك في نفس الصف في الجهة الأخرى آخر مع بعد المسافة بينهما.
هل يكون صلى خلف الصف، وفي الحديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف).
وفي حديث وابصة بن معبد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة) أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن ماجه، وأحمد وحسنه كما في رواية الأثرم، كما نقله الحافظ في التلخيص، وله شاهد من حديث على بن شيبان قال: (خرجنا فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، وصلينا خلفه، فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فرأى رجلاً خلف الصف وحده، فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف، فقال: "استقبل صلاتك، فلا صلاة للذي خلف الصف") أخرجه ابن ماجه، وأحمد والبيهقي، وابن حبان، وغيرهم، وهو حديث صحيح لغيره، وله شواهد وطرق لا تخلو من مقال -كما في الإرواء للألباني-.
وقد نقل عبد الله بن أحمد في المسند بعد حديث وابصة قال: (وكان أبي يقول بهذا الحديث).
وفي صحيح البخاري من حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهْوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
(زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلاَ تَعُدْ)
ففيه دليل على صحة ركوعه قبل الصف واعتبره مدركاً لها، ولم يأمره بالإعادة في الوقت، ولو كان فعله هذا مبطلاً لركعته أو لصلاته، لأمره بالإعادة، كما أمر المسيء في صلاته، وذلك أن المأمور إذا كان مؤقتاً، فتركه الإنسان لجهله، وعلم في الوقت أعاد -وقد سبق بيان ذلك في قاعدة الجهل في القواعد-. فدل على أن الأمر (لا تعد) للإرشاد لا للتحريم، إذ لو كان للتحريم لأمره بالإعادة.
ثم إن لفظة (لا تعد) لا تعود للركوع قبل الصف، وإنما تعود للإسراع لإدراك الإمام، نظير حديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وآتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة...).
وحديث أبي بكرة، فيه أن الركوع كان قبل المصافة، ولو أدرك جزءاً من الركوع بعد المصافة لم يكن فيه إشكال، لأنه أدرك جزءاً من الركوع في حال المصافة، وهذا خلاف الظاهر من حديث أبي بكرة، بل ظاهره أنه ركع قبل إدراك المصافة وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمره بالإعادة.
وعليه فإن حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) يحمل على الكمال لحديث أبي بكرة السابق.
وحديث الأمر بالإعادة -كما في حديث وابصة بن معبد-، فالجواب عنه كالآتي:
١- أنه ضعيف، وطرقه لا يخلو طريق منها من مقال، ولا تعارض بين صحيح وضعيف.
٢- أنه معارض بما هو أصح منه، وهو حديث أبي بكرة عند البخاري.
٣- عند التعارض وعدم التمكن من الجمع، فالأصح يقدم على ما دونه في الصحة.
وعلى هذا فإن حديث أبي بكرة دليل على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة) فالإدراك يكون بالركوع، وهو ركع قبل الصف.
ولهذا ذهب الجمهور -الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد- إلى صحة صلاة المنفرد خلف الصف، مع الكراهة.
ويؤيد ذلك صحة صلاة المرأة منفرداً خلف الصف، فلا يشترط أن يكون معها أخرى، وما ثبت لها ثبت للرجل إلا بدليل.
وأما حديث ابن عباس لما صف مع النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه فجعله عن يساره، فهو انفراد يسير لا يضر، وإنما تدرك الركعة بالركوع.
وذهب أحمد في المشهور من مذهبه إلى بطلان صلاته، لحديث وابصة بن معبد السابق. وقد سبق الجواب عليه.
——
وبعد الترجيح في هذه المسألة فلا إشكال فيمن صلى في طرف الصف، وصلى آخر في الطرف الآخر من ذلك الصف، وأما من يرى أن الصلاة خلف الصف باطلة، فهل يكون هذا الاصطفاف معتبر، لأنهم اثنان خلف الصف، ولو كانوا متباعدين عرفاً، ولكنهم في الجملة غير منفرد واحد منهما خلف الصف، فلا تبطل صلاتهما لحديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وهذا معه غيره، وإن لم يكن مراصاً له، بل بينهم مسافات.
ويحتمل أن وجود الإنفراد لمن بعد مسافة طويلة عرفاً في الصف عن أخيه، يسمى كل واحد منهم منفرداً، لعدم تجاورهما وابتعادهما عن بعضهما ابتعاداً بعيداً عرفاً، بحيث يطلق على كل واحد منهما في لغة العرب منفرداً. وهذا في نظري أقرب.
* وبخصوص وقوف مأمومين متباعدين في صف واحد فقد نصّ الحنابلة أنه لا يكون ذلك كصلاة الفذ، إلا إن كان الابتعاد عن يسار الإمام خاصة.
* ففي كشاف القناع : (ولا بأس بقطع الصف عن يمينه) أي الإمام (أو خلفه وكذا إن بعد الصف عنه) أي عن الإمام فلا بأس به (نصا وقربه) أي الصف (منه) أي الإمام (أفضل) من بعده وكذا قرب الصفوف بعضها من بعض.
* (وكذا توسطه) أي الإمام للصف أفضل لحديث أبي هريرة قال قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود.
* (وإن انقطع) الصف (عن يساره) أي الإمام (فقال ابن حامد إن كان) الانقطاع بعد مقام الثلاثة رجال (بطلت صلاتهم) أي صلاة المنقطعين عن الصف عن يسار الإمام، وجزم بمعناه في المنتهى.
تنبيه: وروى الإمام أحمد -وصححه الألباني في الصحيحيحة- (أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالمراصة ونهى أن ندع فرجات للشيطان).
والله تعالى أعلم وأحكم.
كتبه/ محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى/ مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق