قاعدة : فرق بين القياس الأولى ، والمثل الأعلى :
———-
المثل الأعلى : الصفات العليا .
فالذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يعملون لها، الصفة القبيحة من العجز والحاجة والجها والكفر ، ولله الصفات العليا من الكمال والاستغناء عن خلقه( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ).
والقياس الأولى : ليس قياس العلة : الذي هو إلحاق الفرع بأصل لعلة جامعة بينهما .
وليس هو القياس بنفي الفارق، وذلك لأن القياس منه ما يكون في الجمع بين الفرع والأصل بالعلة فيكون : إلحاق بفرع بأصل لعلة جامعة بينهما . فكل شيء يسكر يلحق بالخمر لعلة الإسكار .
ومن القياس ما يكون الجمع بين الفرع والأصل
لا بنفس العلة ، وإنما بدليل العلة كملزومها -كإلحاق النبيذ بالخمر في المنع بجامع الشدة المطربة ، لأنها ملزمة للإسكار الذي هو العلة . أويكون الجمع بأثر العلة ، كإلحاق القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في القصاص، بجامع الإثم ، لأن الإثم أثر العلة التي هي القتل العمد العدوان . أو كان الجمع بحكم العلة ، كأن يقال : يجوز تزويج البكر البالغة وهي ساكته فجاز تزويجها وهي ساخطة ، قياساً على الصغيرة، فإن إباحة تزويجها مع السكوت تدل على عدم اعتبار رضاها ، ولو اعتبر لاعتبر دليله وهو النطق ، لأن السكوت محتمل متردد، وإذا لم يعتبر رضاها جاز تزويجها في حال السخط .
وهذا ما يسمى بقياس الدلالة : الجمع بين الأصل والفرع بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها .
وذلك لأن اشتراكهما في دليل العلة من ملزوم أو أثر أو حكم ، يدل على اشتراكهما في العلة ، ظناً غالباً.
وأما إذا كان الجمع بين الأصل والفرع لا بنفس العلة ، وإنما بنفي الفارق ، وهو القياس في معنى الأصل ، وهو مفهوم الموافقة ،
ويسمى بالقياس بنفي الفارق ، ويسمى بتنقيح المناط، ولا مشاحة في الاصطلاح .
ولكن المراد هنا هو قياس الأولى ، سُمِّي بالأَوْلى؛ لأن الفرع (المقيس) يكون في حكمه أولى من المقيس عليه .
وهذا ثابت في حق الله تعالى ، قال تعالى :( ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمدلله بل أكثرهم لا يعلمون ) حيث ضرب الله مثلاً بين فيه فساد عقيدة أهل الشرك : رجلاً مملوكاً عاجزاًعن التصرف لا يملك شيئاً ، ورجلاً آخر حراً، له مال حلال رزقه الله به، يملك التصرف فيه ، ويعطي منه في الخفاء والعلم ، فهل يقول عاقل بالتساوي بينهما؟ فكذلك الله الخالق المالك المتصرف لا يستوي مع خلقه وعبيده، فكيف تسوون بينهما ؟.
وقال تعالى :( وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) حيث ضرب الله مثلاً آخر لبطلان الشرك ، رجلين : أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يُفهم ، لا يقدر على منفعة نفسهأو غيره، ثقيل على من يلي أمرهويعوله، إذا أرسله لأمر لا يقضيه لا ينجح ولا يعود عليه بخير ، ورجل آخر سليم الحواس ينفع نفسه وغيره، يأمر بالإنصاف وهو على طريق واضح لا عوج فيه، فهل يستوي الرجلان في نظر العقلاء، فكيف تسوون بين الصنم الأبكم الأصم وبين الله القادر المنعم بكل خير .
وأما قوله تعالى : ( فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنام لا تعلمون ) فالمراد : إذا علمام أن الأصنام والأوثان لا تنفع ، فلا تجعلوا لله أشباهاً مماثلين له من خلقه تشركونهم معه في العبادة ، إن الله يعلم ما تفعلون، وأنتم غافلون لا تعلمون خطأكم وسوء عاقبتكم .
@ قال ابن تيمية في العقيدة الأصفهانية ص117 : الله سبحانه وتعالى يستعمل في حقه قياس الأولى كما جاء بذلك القرآن
وهو الطريق التي يسلكها السلف والأئمة كأحمد وغيره من الأئمة فكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به
وكل نقص ينزه عنه مخلوق فالخالق أولى أن ينزه عنه
كما قال تعالى {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}
وقال تعالى {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}
وذلك لأن صفات الكمال أمور وجودية
أو أمور سلبية مستلزمة لأمور وجودية
كقوله تعالى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم}
فنفي السنة والنوم استلزم كمال صفة الحياة والقيومية
وكذلك قوله {وما ربك بظلام للعبيد} استلزم ثبوت العدل ...
وأما العدم المحض فلا كمال فيه
وإذا كان كذلك فكل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين :
أحدهما : أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم المحدث المربوب
الثاني : أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه فإذا كان هو مبدعا للكمال وخالقا له كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفا به من المستفيد المبدع المعطي . ا. هــ
وقال في بيان تلبيس الجهمية [5-424] : مثل هذا القياس العقلي والمثل المضروب هو الذي يستعمل في باب الربوبية في كتاب الله تعالى في باب التنزيه عن الشركاء والأولاد وغير ذلك
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه قال نعم قال فاقضوا الله فالله أحق بالقضاء "
وهذا المعنى جاء في أحاديث متعددة صحيحة فقبول الاستيفاء من الإنسان عن غيره لما كان من باب العدل والإحسان كان الله أحق بالعدل والإحسان من العباد وكان الذي يقضي عن غيره حق المخلوق هو أحق بأن يقضي عنه حق الخالق من جهتين :
من جهة أن حق الخالق أعظم
ومن جهة أنه أعدل وأرحم
ونظير ذلك في جانب النفي ما رواه الإمام أحمد في مسنده أنهم لما فاتتهم الصلاة سألوه هل يقضونها مرتين فقال ( أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم ) يقول إنه نهى عن الربا لما فيه من الظلم وهو المعاوضة عن الشيء بما هو أكبر منه في الديون الثابتة في الذمة بعوض أو غيره وهو أحق بتنزيهه عن الظلم من عباده ...
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما رأى امرأة من السبي لما رأت طفلاً أخذته فأرضعته ( أترون هذه طارحة ولدها في النار قالوا لا يا رسول الله قال للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها ) فيه قياس الأولى لكن من باب التصور
وقد يستعمل من باب التصديق بأن يقال إذا كانت هذه لكونها كانت سبباً في وجود هذا فيها هذه الرحمة فالرب الخالق لكل شيء ووجود كل شيء منه أحق بأن يكون رحيماً بذلك ومن باب الأمر قول ابن عمر لغلامه نافع وقد رآه يصلي في ثياب ناقصة فقال ( أرأيت لو أرسلتك في حاجة أكنت تذهب هكذا فقال لا فقال فالله أحق من تُزُيِّنَ له من الناس ( ... ا. هــ المراد
والمقصود : أن الاستدلال بقياس الأولى قد دل عليه القرآن والسنة وأقوال السلف والأئمة رحمهم الله
وأما ما ورد عن بعض العلماء من نفي القياس في العقائد فمرادهم بذلك هو "قياس الشمول" و "قياس التمثيل"
قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية [2-347] : إن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الإلهية والمقاصد الربانية ما لم تصل إليه آراء هؤلاء المتكلفين في المسائل والوسائل في الأحكام والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع .
والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع
ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه
فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساويًا له أصلاً
بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله
وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوًا وسميًّا . ا.هــ .
@ وبناء على ما سبق يكمن الفرق بين المثل الأعلى وقياس الأولى في حق الله تعالى في الأمور التالية :
أولا: أن قياس الأولى فيه إلحاق الصفة بصفات الله ، وإثباتها له بكونه أولى بها من المخلوق ، والمثل الأعلى فيه بيان الكيفية العامة المجملة للصفة بعد ثبوتها .
فمثلا : الله أحق بصفة السمع من المخلوق ، هذا قياس الأولى ، ولسمع الله الصفة الأعلى التي ليس كمثلها شيء، وكل سمع فهو دونها ، هذا المثل الأعلى ، وهذا فرق جلي .
ثانيا: أن المثل الأعلى هو دليل قياس الأولى ، فإننا إنما نقرر کون الله أولى بصفة الكمال من المخلوق المتصف بها بكونه سبحانه له المثل الأعلى والأكمل والأتم الذي يمنع أن يقوم ما هو كمال في ذاته من الصفات بغيره دونه تعالى وجل .
ثالثا: المثل الأعلى أعم من قياس الأولى يشمله وغيره فهو في ألوهية الله وربوبيته وسائر خصائصه ، والله تعالى أعلم .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق