——————
هذه الأيام كثر الأموات في الهند من جائحة كورونا -ويقوم الهندوس الكفار يحرق جثث موتاهم على معتقداتهم؛ لكنهم يعانون من قلة المال لشراء الحطب وغيرها. وأحيانًا يتركون الجثث في المستشفيات.
فقام بعض المسلمين بتقديم المال لهم ونقل موتاهم للأماكن الخاصة للتحريق.
فيقول بعض الطلاب لا يجوز للمسلم أن يقدم مساعدة مالية لهم. وكذلك لا يجوز أن يساعدهم في تحريق جثثهم. ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن النار لا يعذب بها إلا الله) صحيح البخاري:٣٠١٦
فما هو الصحيح تجاه هذه النازلة؟
————
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فكل إعانة لهم في ما حرم الله تعالى فهو حرام، والرضا بالمعصية محرم، فكيف بالإعانة عليها، والقاعدة: المعين كالفاعل.
-كما سبق تقريره في القواعد-.
وتحريقهم الجثث ناتج عن عقيدة فاسدة، والواجب هو مواراة الكافر بعد موته في التراب، وأما حرقها فهو إيضاً إهدار للأموال من شراء حطب ونحوه، بلا فائدة، وأما كونه تعذيب بالنار، فليس كذلك، لأنه بعد فراق الروح لا يعتبر تعذيباً.
وخلاصة ذلك: تحريم إعانتهم بتحريق الجثث للأسباب التالية:
١- مبني على معتقد فاسد، وهو الشك في قدرة الله تعالى على جمع الجسد المحرق بعد إحراقه. والشك في قدرة الله تعالى كفر مخرج من الملة.
٢- ولما فيه من إضاعة مال الحطب ونحوه من الأموال، بلا فائدة صحيحة راجحة.
٣- ولأن المعين كالفاعل.
٤- ولأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة الإسلامية، قال تعالى: (ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين).
فإن قيل: إذا كان الدافع للمسلمين لإعانة الكفار على حرق موتاهم للتخلص من الوباء والجثث، إذ لو تركت دون تصريف لأدى ذلك لضرر عظيم على المسلمين وغيرهم .
فالجواب: إذا لم يكن لهم طريق إلا ذلك فلا حرج، وأما إذا كان من الممكن مواراتهم في التراب فهو المتعين.
فإن قيل: أليس كونه تعذيباً بالنار يخالف ماجاء في الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وغيره بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ
لأن التعذيب بالإحراق بالنار أو غيرها حاصل ولا يجوز.
والجواب:
١- أن إحراق ما لا روح فيه لا يعتبر تعذيباً بالنار، ولهذا لا يجوز تعذيب أو حرق البهيمة وهي حية بالنار، وبعد ذبحها يجوز أن تشوى على النار.
٢- حديث (كسر عظم الميت ككسره حي)
الكافر غير المعاهد لا حرمة له، فيجوز كسره حياً وميتاً، ثم إن المعاهد كسره حياً وميتاً من أجل حمايته من المسلمين كحماية المسلمين، فما كان من رغبته بعدم الحماية فيه، ويرى أنه من كرامته، فلا يعتبر امتهاناً لحمايته، ولا يعني أنه في الكفاءة في البدن والدم كالمسلم، وفي الحديث: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم)، وفي الحديث: (لا يقتل مسلم بكافر).
فإن قيل: إن الإحراق لجثة الكافر أعظم من التمثيل، والتمثيل منهي عنه شرعاً، وفي
حديث بريدة رضي الله عنه قال قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّه، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا...) رواه مسلم.
فالجواب:
١- أن التمثيل والمثلة: هي تقطيع أطراف الحي أو الميت أو تشويه خلقته.
وأما إتلافه من غير تشويه فلا بأس به، فإحراقه وتركه مشوهاً بالنار مثلة، وإحراقه حتى يكون رماداً ليس بمثلة.
قال ابنُ الأثير رحمه الله تعالى:
" يقال: مَثَلْتُ بالحيوان أمْثُل به مَثْلاً، إذا قطعت أطرافه وشوّهت به، ومَثَلْت بالقَتيل، إذا جَدَعْت (أي قطعت) أنفه، أو أذنه، أو مذاكيره، أو شيئاً من أطرافه. والاسم: المُثْلة. فأمَّا مَثَّل، بالتشديد، فهو للمبالَغة".
٢- ولما أخرجه أحمد و البخاري و أبو داود و الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله في بعث، فقال: إن وجدتم فلاناً و فلاناً لرجلين فأحرقوهما بالنار، ثم قال حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما"، و في بعض ألفاظ الحديث: "وإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله".
وهذا يدل على عدم حرقهما لعلة وهي: كون الإحراق مما يختص بالله تعالى في تعذيبه لخلقه، وليست العلة من النهي كونه من التمثيل.
٣- أن النهي عن المثلة إنما إذا كان مجرداً عن المصلحة، وأما إذا كانت هناك مصلحة راجحة فلا بأس، كأن يمثلوا بموتانا أو يكون أقوى في إغاضتهم وإرعابهم.
والقاعدة: المعاقبة بالمثل مشروعة ما لم تكن محرمة لحق الله تعالى.
٤- ومما يدل على أنه ليس محرم لحق الله تعالى، قصة العرنيين الذين سملوا عيني الراعي وتركوه يهيم في الصحراء حتى مات، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم وسمل أعينهم وتركهم يهيمون في الصحراء حتى ماتوا).
وكذا رض رأس يهودي رض رأس جارية بين حجرين.
٥- أن النهي عن المثلة بجثث الكفرة هل هي للتحريم أو الكراهة.
لقوله تعالى: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم..).
قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآيةِ: "فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْب" أَيْ تَغْلِبهُمْ وَتَظْفَر بِهِمْ فِي حَرْب "فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ" أَيْ نَكِّلْ بِهِمْ. قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَابْن عُيَيْنَةَ وَمَعْنَاهُ غَلِّظْ عُقُوبَتهمْ وَأَثْخِنْهُمْ قَتْلًا لِيَخَافَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَعْدَاء مِنْ الْعَرَب وَغَيْرهمْ وَيَصِيرُوا لَهُمْ عِبْرَة "لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" .ا.هـ.
٦- وقياساً على الكي هو قياس ظاهر، إذ كلٌ منهما فيه تعذيب بعذاب الله وهو النار، ويفترقان في كون التحريق لمصلحة التنكيل بالكفار والكي يكون لمصلحة العلاج، ولعل هذا ما فهمه من صح عنه التمثيل في القتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما. وهذه قرينة تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة،
وقد حكى القاضي والصنعاني وغيرهما: الإجماع على تحريم التمثيل، ولا يصح هذا الإجماع لثبوت المخالف.
٧- ولأن الحق في عدم التمثيل لحق المخلوق لا لحق الخالق، بدليل جواز التمثيل بهم إذا مثلوا بنا، وبما أن الكافر لا حق لهم ولا حرمة ولا كرامة، مما يجعل النهي عن تمثيلهم للتنزيه لا للتحريم، فيكون ذلك النهي من باب الآداب وتهذيب السلوك، فيكون النهي للكراهة لا التحريم.
فقد روى الترمذي وقال: "حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ"، وأحمد من زوائدِ عبد الله، وأوردهُ الشيخُ مقبل الوادعي في "الصحيحِ المسندِ من أسبابِ النزول": عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ فِيهِمْ: حَمْزَةُ؛ فَمَثَّلُوا بِهِمْ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: "لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" فَقَالَ رَجُلٌ: "لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً".
وبهذا يترجح في نظري والعلم عند الله تعالى: رجحان جواز حرق جثة الكافر لمصلحة راجحة -وقد تقدم بيان ذلك في حكم حرق جثة الكافر-.
والله تعالى أعلم.
كتبه/ د. محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق