حكم التصنع بما ليس فيه للغير:
———
التَّكلُّف وهو فعلُ وقول ما لا مصلحةَ فيه بمشقةٍ قال الله تعالى: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ).
ففرق بين محاولة فعل المأمور قربة لله تعالى ، وبين التصنع: وهو التكلف بما ليس فيه زيادة على المأمور ليظهر بغير مظهره الحقيقي لغير الله تعالى .
وإكرام الضيف بما يقتضيه العرف من ذبح شاة ونحوها ، ليس من التكلف المنهي عنه، ما دام أنه تحت قدرته ولم يعجز عنه .
وفعل المأمور الذي فيه مشقة، ولا يتأتى ذلك إلا بتلك المشقة ، يكون الأجر بقدر تلك المشقة، كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في الحج ( أجرك على قدر نصبك).
وأما إذا كانت العبادة لها طريقان ، أحدهما يسير ، والآخر عسير ، فترك اليسير الممكن والأخذ بالعسير من التنطع وفي الحديث( هلك المتنطعون) أي اامتعمقون المتشددون .
وفي الحديث( إن هذا الدين يسر، لأن يشاده أحد إلا غلبه).
وضيافة الضيف والتكلف له بما لم يصل إلى حد الإسراف عرفاً وشرعاً، مأمور به شرعاً، ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته)
وفي الحديث الآخر ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)
والكريم : هو الذي لم يترك الحق الشرعي أو العرفي الغير مخالف للشرع.
والقاعدة : ما لم يحدد في الشرع، فالمعتبر فيه ما وافق العرف.
والأنصاري الذي أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبابكر وعمر رضي الله عنهما لما خرجوا وما أخرجهم إلا الجوع من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند مسلم في صحيحه : - خَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ذَاتَ يَومٍ، أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هو بأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقالَ: ما أَخْرَجَكُما مِن بُيُوتِكُما هذِه السَّاعَةَ؟ قالَا: الجُوعُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لأَخْرَجَنِي الذي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا، فَقَامُوا معهُ، فأتَى رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ فَإِذَا هو ليسَ في بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المَرْأَةُ، قالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقالَ لَهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ المَاءِ، إذْ جَاءَ الأنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ ما أَحَدٌ اليومَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بعِذْقٍ فيه بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقالَ: كُلُوا مِن هذِه، وَأَخَذَ المُدْيَةَ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ، فَذَبَحَ لهمْ، فأكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذلكَ العِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عن هذا النَّعِيمِ يَومَ القِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِن بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ)
ومع قلة يد الأنصاري أكرم أضيافة - مع كون كل من الأضياف ومن ضيفهم في مدينة واحدة - بذبح الشاة لهم ولم يعتبر ذلك تكلفاً.
وإبراهيم عليه السلام أكرم أضيافه بذبح العجل( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم ).
وزيادة ( نهينا عن التكلف للضيف) أخرجه الحاكم وغيره زيادة منكرة ، وهي مخالفة لما في الصحيحين، وعلى فرض صحتها فالمراد : ما زاد عن حد العرف، ووصل إلى حد الإسراف ، جمعاً بين الأدلة .
وكل مجتمع لهم عادة يكرمون به الأضياف ولا يعتبر ذلك إسرافاً ولا محرماً، بل مأمور به شرعاً.
وأما التصنع ، فهو المنهي عنه ، فقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ).
قال الزمخشري: أي المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعًا، ولا مدعيًا ما ليس عندي حتى أنتحل النبوة، وأدّعي القرآن. انتهى.
وفي الخديث( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
ومن أعظم صور التكلف، وأقبحها : تكلف المرء ما لا يحسنه، وجوابه عما لا يحيط بعلمه من مسائل الشرع.
ومن صور التكلف كذلك تكلف السؤال عما قد يعنت الإنسان، ويوقعه في الحرج.
قال الألوسي: وعلامة المتكلف -كما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنذر- ثلاث: أن ينازل من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم. وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال: ( أيها الناس، من علم منكم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله تعالى أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وما أنا من المتكلفين. انتهى.
وذكر القرطبي عند هذه الآية ما رواه الدارقطني: من حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَسَارَ لَيْلًا فَمَرُّوا عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مَقْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ، أَوَلَغَتِ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ لَا تُخْبِرْهُ، هَذَا مُتَكَلِّفٌ، لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ، وَطَهُورٌ )
وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا. انتهى.
قال ابن عاشور -رحمه الله-: وَعَطْفُ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَفَادَ انْتِفَاءَ جَمِيعِ التَّكَلُّفِ عَن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّكَلُّفُ: مُعَالَجَةُ الْكُلْفَةِ، وَهِيَ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ عَمَلُهُ، وَالْتِزَامُهُ؛ لِكَوْنِهِ يُحْرِجُهُ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ تَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ مَا لَيْسَ بِسَهْلٍ، فَالْمُتَكَلِّفُ هُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ يَدَّعِي عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ. انتهى.
وأما المشقة التي لا يمكن فعل المأمور أو ترك المحظور إلا بها فهذه مشقة عادية ليست فوق المشقة المعتادة ، فلا تلغي المأمور . والله تعالى أعلم .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة ، في الحرم المكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق