—————-
القاعدة التاسعة عشرة : الواجبات لا تثبت في الذمة إلا بعد التمكن من الأداء خلافاً لظاهر المذهب عند الحنابلة .
———————-
قال ابن وجب : "إمكان الأداء ليس بشرط في استقرار الواجبات بالشرع في الذمة على ظاهر المذهب".
والصحيح في هذه القاعدة هو أن الواجبات لا تثبت في الذمة إلا بالتمكن من الأداء، ويدل لذلك قوله تعالى "فاتقوا الله ما استطعتم"، وقوله تعالى "لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها" وقوله تعالى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".
فرق المصنف رحمه الله بين أداء العبادة وبين قضائها، فذكر اشتراط إمكان الأداء للأداء دون القضاء عند الأصحاب، ولعل سبب ذلك أن القضاء يقصد منه الفعل ،
والإمكان شرط فيه، بخلاف الوجوب في الذمة، هكذا ذكر ابن نصر الله البغدادي في تعليقه على هذه القاعدة.
وفرق بين التمكن من الأداء وبين العجز، فالأول شرط على الأصح في ثبوت ذلك الواجب في الذمة خلافا للمذهب، أما العجز فيعذر صاحبه مع ثبوت ما عجز عنه في ذمته،
- كمن عليه صيام ، ولم يتمكن من أدائه حتى مات وكان ذلك بسبب مرض يرجى برؤه، لم يجب عليه شيء ، لعدم قدرته على الصيام الواجب حتى مات، وأما إذا كان لمرض لا يرجى برؤه ففرضه الإطعام لا الصيام - .
ومن عجز عن أداء الواجب يؤديه عند زوال عذره وعجزه، مع العلم بأن العجز هو نوع من أنواع عدم التمكن من الأداء، فكل عجز عن التكليف هو عدم تمكن من الأداء ولا عكس.
ومن ترك البدل المقدور عليه بعد عجزه عن الأصل حتى قدر على ما فوقه إلى الأصل ثبت في ذمته ذلك .
كمن قدر على الإطعام وعجز عن العتق والصيام من كفارة الظهار، فترك الإطعام حتى قدر على الصيام فيثبت في ذمته، وكذا من عجز فإنه يجب عليه ما عجز عنه عند قدرته، كما في حديث الذي واقع أهله في نهار رمضان حين لم يقدر على شيء من خصال الكفارة، فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالإطعام عند توفره.
وقد ذكر المصنف رحمه الله لهذه القاعدة أمثلة:
١- إذا وصل عادم الماء إلى الماء وقد ضاق الوقت فعليه أن يتطهر ويصلي بعد الوقت، هذا على قول الجمهور، وظاهر كلام أحمد يصلي بالتيمم.
والصواب هو صحة تيممه وصلاته، وهو المأمور به، فإنه والحال هذه عاجز شرعا، والقاعدة أن "العجز الشرعي كالعجز الحسي، والعكس صحيح"، فصح تيممه لكونه عاجزا شرعا عن الإتيان بالطهارة الكاملة مع حفظ شرط الوقت.
٢- الصلاة، إذا طرأ على المكلف ما يسقط تكليفه بعد الوقت وقبل التمكن من الفعل فعليه القضاء في المشهور، ومنه إيجاب الإتمام على من سافر بعد دخول وقت الرباعية في حقه.
والصحيح : أن العبرة بالمنظور لا بالمنتظر : فإذا حاضت المرأة وقد تمكنت من الأداء في وقت صلاة الظهر مثلاً ولم تصلي حتى حاضت في وقتها الموسع : وجب في ذمتها كقضاء الظهر بعد زوال المانع وهو الحيض، ولم يجب عليها قضاء العصر لعدم تمكنها من الأداء قبل وجود المانع على الأصح خلافاً للمذهب عند الحنابلة .
ومن سافر بعد دخول الرباعية في وقتها الموسع ولم يصلي حتى سافر ، وجب عليه أربع ركعات لتمكنه من الأداء على المذهب.
والأصح العبرة بوقت الفعل لكون وقتها موسع ، وهي في وقت الفعل أداء لكون ذلك في الوقت الموسع، فإذا صلى وهو مقيم صلى أربعاً، وإذا صلى وهو مسافر صلى اثنتين ، والعبرة بالمنظور لا بالماضي ولا بالمستقبل ، وهي في كلا الحالتين أداء.
٣- الزكاة، فإذا تلف النصاب قبل التمكن من الأداء فعليه زكاته على المشهور، إلا المعشرات إذا تلفت بآفة سماوية لكونها لم تدخل تحت يده، والصواب أنه لا تستقر الزكاة في ذمته ما لم يتمكن من الاداء، وأما المعشرات فتستقر في ذمته بعد الجذاذ والحصاد، والقاعدة في ذلك "كل من قبض الشيء بإذن من المالك أو الشارع فيده يد أمانة"، فعليه الضمان بشرطه، وهو التعدي أو التفريط.
٤- الصيام، فإذا بلغ الصبي مفطرا ً في أثناء يوم من رمضان، أو أسلم فيه كافر، أو طهرت حائض، لزمهم القضاء على أصح الروايتين، وقد سبق تقرير الفرق بين أثر انتفاء الشروط ووجود الموانع، في القاعدة السابعة، فهذا المثال يندرج تحت زوال المانع.
————————-
القاعدة العشرون والحادية والعشرون :
لا فرق بين نماء العين ، ونماء الكسب .
قال ابن رجب : "النماء المتولد من العين حكمه حكم الجزء، والمتولد من الكسب بخلافه على الصحيح".
"وقد يختص الولد من بين سائر النماء المتولد من العين بأحكام".
الصحيح هو عدم التفريق بين نماء العين والكسب، وهذه القاعدة هي في الأصل ضابط في المذهب لما قرروه بين التفريق بين النماء المتصل والمنفصل، وليست هي قاعدة مطردة.
مما يحسن الاستطراد به التعرض إلى قاعدة: "الجزء لا يأخذ حكم الكل، ولا يعبر بالجزء عن الكل إلا إذا كان الجزء ركنا فيه غالبا".
ومن أدلة هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة "نَاوليني الخُمْرَةَ من المسجدِ فقالت إني حائضٌ فقال ( إنَّ حَيْضَتَكِ ليستْ بيدِكِ" أخرجه مسلم، فلم يحكم لجزئها وهو يدها بالحكم الذي قام بكليتها وهو معنى الحيض،
وعن عائشة "أنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي حَائِضٌ وهو مُعْتَكِفٌ في المَسْجِدِ وهي في حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ" رواه البخاري، ولم يعد ذلك خروجا، ولم يجعل للكل حكم ذلك الجزء.
من أمثلة هذه القاعدة:
١- لو كان عنده دون نصاب، فكمل نصابا بنتاجه فهل يحسب حوله من حين كمل كما لو كان النتاج من غيره، أو من حين ملك الأمهات، لأن النتاج جزء من الأمهات، فهو موجود فيها بالقوة من أول الحول؟ في المسألة روايتان.
والأصح : لا فرق بين تمام النصاب وكماله بنماء عين أمهات غنمه، وبين كون تمام النصاب من كسب غير عين غنمه ونمائها.
٢- لو كان له مائة وخمسون درهما فاتجر بها حتى صارت مائتين فحولها من حين كملت بغير خلاف، لأن الكسب متولد من خارج وهو رغبات الناس، لا من نفس العين، وهذا المسألة والتي قبلها الصواب فيها أن احتساب الحول من حين كمال النصاب، ولا اعتبار بكونه متولدا من نفس العين أو من خارجها، لأن ظاهر السنة اعتبار كمال النصاب وقتاً لاحتساب الحول على إطلاقه دون هذا التفريق.
والعبرة في وجوب عروض التجارة : نية الكسب والاتجار فيما بلغ أقل النصابين من الذهب أو الفضة .
٣- لو اشترى شيئا فاستغله ونما عنده ثم رده بعيب، فيفرق بين نمائه إن كان كسبا وبين ما كان متولدا من عينه كالولد والصوف واللبن، ففي الأول لا يرده معه، وفي الثانية روايتان معروفتان.
والأصح : أن (الخراج بالضمان ) فيشمل ذلك النماء المتصل والمنفصل ، ويشمل ذلك النماء المتولد منه ، والنماء بالكسب حلافاً للمذهب عند الحنابلة .
٤- لو قارض المريض في مرض الموت وسمى للعامل أكثر من تسمية مثله، صح ولم يحتسب من الثلث، لأن النماء إنما حصل من الكسب، والربح من خارج لا من العين، فليس حكمه حكم الجزء،
والصواب في هذه المسألة أيضا هو عدم النظر إلى هذا التفريق، بل مدار النظر إلى التهمة في هذه التسمية من عدمها لا غير.
نظير حديث( لا يرث القاتل شيئاً) يفرق بين القتل الذي وجدت فيه التهمة في القتل من أجل الميراث، فلا يرث، وبين ما لا تهمة فيه فيرث.
٥- لو فسخ المالك المضاربة قبل ظهور الربح لم يستحق المضارب شيئا، ولو فسخ المساقاة قبل ظهور الثمرة استحق العامل أجرة المثل، لأن الربح لا يتولد من المال بنفسه بل من العمل، ولم يحصل بعمله ربح، أما الثمر فيتولد من عين الشجر، وقد كان لعمله أثر في حصول الثمر وظهوره بعد الفسخ فاستحق أجرة المثل.
والأصح : أن من فسخ في الشراكة سواء كانت مضاربة أو مساقاة بدون عذر لا يستحق شيئاً غير موجود ، وإنما له من الاستحقاق بقدر ما وجد من الربح أو الثمرة حسب الاتفاق على مقدار السهم الذي له ، سواء كان قبل ظهور الربح أو بعده، وسواء قبل ظهور الثمرة أو بعدها.
فالأمر معلق على كون عقد الشراكة جائز ، وهو الأصح ( نقركم في ذلك ما شيئنا)
ومن فسخ قبل ظهور الربح أو الثمرة لا شيء له، مما لم يوجد ، وله بعد ظهور بعد رأس ماله الموجود حصته حسب ما تم الاتفاق عليه من النصيب المشاع .
٦- المشاركة بين اثنين بمال أحدهما وعمل الآخر، إن كانت المشاركة فيما سمى من العمل كالربح جاز، كالمضاربة، وكمن دفع دابته لمن يعمل عليها بجزء من كسبه، فإنه يجوز على الأصح، أما إن كانت المشاركة فيما يحدث من عين المال كدر الحيوان ونسله، ففيه روايتان، وكثير من الأصحاب يختار المنع، لأن العامل لا يثبت حقه في أصل عين المال، والمتولد من العين حكمه حكمها، لكن فرق بعضهم بين ثمر الشجر وغيره مما يتولد من عين المال بأن للعمل تأثيرا في حصول الثمر بخلاف غيره، ولهذا المعنى جازت المساقاة.
والأصح : لا فرق فلكل منهما نصيبه المشاع في الربح حسب الاتفاق سواء كان متولد من عين ماله ، أو كان ذلك مما حدث من عين المال الذي حصلت فيه المضاربة أو المشاركة.
والخسارة على صاحب المال في ماله ، وعلى صاحب العمل في عمله.
من أمثلة القاعدة الآخرى:
٧- لو ولدت الأمة الموقوفة ولدا فهل يكون ملكا للموقوف عليه كالثمرة، أويكون وقفا معها؟ على وجهين، أشهرهما أنه وقف معها، لأنه جزء منها، ولهذا يصح وقفه ابتداء، بخلاف الثمرة، والسنة قد وردت في الولد على المعنيين، فاعتبرته كسبا كما في حديث "إنَّ أطيبَ ما أَكلتُم من كسبِكم وإنَّ أولادَكم من كسبِكم" رواه الترمذي ، واعتبرته جزءا كما في حديث "فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فمَن أغْضَبَها أغْضَبَنِي" رواه البخاري.
وحقيقة المسألة : لا تنبني على القاعدة : بل المرجع في ذلك إلى شرط الواقف ، فإن لم يتبين فالمرجع في تحديد ذلك إلى العرف.
٨- لو ولدت الموصى بمنافعها، فإن قلنا الولد كسب، فكله لصاحب المنفعة، وإن قلنا هو جزء ففيه وجهان: أحدهما أنه بمنزلتها، والثاني أنه للورثة، لأن الأجزاء لهم دون المنافع.
والأصح كما في المسألة السابقة في تحديد ذلك إلى شرط الواقف، ثم إلى العرف.
والله تعالى أعلم وأحكم.
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
كتبها عنه / تلميذه : هنيدي بن يحى الزهراني
٣ محرم ١٤٤٤
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق