[تحرير قواعد ابن رجب .. القاعدة ٣٢]
قال ابن رجب -رحمه الله- :
يصحُّ عندنا استثناء منفعة العين المنتقِل ملكُها من ناقلها مدةً معلومةً.اهـ.
ويمكن أن يستدل لهذه القاعدة ، بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ) .
تحرير هذه القاعدة يكون في قواعد عدة :
منها : قاعدة : الأصل في الشروط الصحة.
ومنها : قاعدة : كل شرط ينافي مقتضى العقد من كل وجه فهو باطل.
ومنها : قاعدة : كل شرط يعود على المقصود الأعظم من العقد بالإبطال فهو باطل.
ومنها : قاعدة : أن كل شرط يعود لحق المخلوق فله اشتراطه؛ والشروط العائدة لحق المخلوق على نوعين :
١- أن يعلم المشترِطُ بطلانَه، فهذا يجوز له اشتراطه لتحقيق بطلانه، لحديث : (إنما الولاء لمن أعتق).
٢- أن لا يعلم المشترطُ بطلانَه فهذا المشترط له الخيار بين الإمضاء والفسخ إذا علم.
ومنها : قاعدة : كل شرط يكون بسببه انتفاء شرط أو وجود مانع أو يعود على أصل العقد بالإبطال فهو باطل.
ثم فرّع ابن رجب عدة فروع على هذه القاعدة فقال :
ومنها : العتق، يصح أن يعتق عبده ويستثني نفعه مدة معلومة، نصَّ عليه؛ لحديث سفينة.
ولحديث جابر عند البخاري : أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا له، ولَمْ يَكُنْ له مالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: مَن يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بنُ النَّحَّامِ بثَمانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. فَسَمِعْتُ جابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ يقولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا، ماتَ عامَ أوَّلَ.
فدل ذلك على مشروعية عتق العبد عند موت سيده ، إذا علق عنقه بموته ، فهو عقد بعلق بشرط.
وكذا لو استثنى خدمته مدة حياته.
وعلى هذا يتخرج أن يعتق أمَته ويجعل عتقها صداقها؛ لأنه استثنى منفعة البضع وتملَّكها بعقد النكاح، وجعل العتق عوضًا عنها؛ فانعقدا في آن واحد.اهـ.
فالعبرة في العقود بالمعاني: فهو عتق مشروط أن يكون العتق مهراً لها في عقد زواجه منها .
وقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم صفية وجعل عتقها صداقها.
قوله : (وكذا لو استثنى..) هذا عائد على المدبَّر.
وقوله : (ويجعل عتقها صداقها..) هذه المسألة ومثيلاتها تعود لقاعدة : تقديم الشيء على سببه لاغٍ، وتقديمه على شرطه جائز .
ولهذه المسألة التي ذكرها ابن رجب احتمالان :
الأول : أنه أعتق الكل واستثنى البضعَ، وجعل المهر ملكًا للباقي، وهذا فيه نظر.
الثاني : أنه أعتقها وجعل عتقها صداقها، وهذا هو الصحيح، وقد يرِد إيرادٌ عن خروج هذا الفرع هنا عن القاعدة؛ والجواب عن خروجه عن القاعدة يكون بثلاثة أوجه:
الوجه الأول : أن هذا الباب باب حقوق في الذمة فأسقطها صاحبها.
الوجه الثاني : أن الأمرين كانا في وقت واحد فصح العتق وصح الصداق به.
الوجه الثالث : أن المهر ليس سببًا في النكاح، وإنما شرط، وتقديم الشيء على شرطه صحيح، وهذا وجه لا يجعل الفرع خارجًا عن القاعدة.
ثم ذكر ابن رجب فرعًا فقال :
ومنها : إذا كاتَب أمةً واستثنى منفعة الوطء؛ فإنه يصح على المذهب المنصوص؛ فإنه إنما نقل بالكتابة عن ملكه منافعها دون رقبتها.اهـ.
وهذا لا يصح على القول الراجح، لأن المنفعة تابعة للرقبة ، فإذا عتقت كانت حرة لا تحل له إلا بعقد النكاح ، وليست أمة وليست مبعضة.
ثم ذكر رحمه الله فرعًا فقال :
ومنها : الهبة، يصح أن يهبه شيئًا، ويستثني نفعَه مدةً معلومة، وبذلك أجاب الشيخ موفق الدين رحمه الله.اهـ.
وهنا ضابط مهم في الهبات :
الاستثناء من الهبة يصح، أما الاستثناء في الهبة لا يصح؛
بدليل العمرى والرقبى، فعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( العمرى لمن وهبت له ) . متفق عليه ، ولمسلم : ( أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها ، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه )
فإذا قلت : وهبتك هذا البيت إلا هذه الحجرة ، جازت الهبة ، واستثنيت الغرفة، وصح الاستثناء.
وإذا قلت وهبتك هذا البيت بشرط أن لا تهبه لغيرك، صحت الهبة وبطل شرط عدم الهبة للغير .
والله أعلم .
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
كتبها عنه تلميذه : محمد شامان العضياني العتيبي.
- [ ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق