حكم طواف الوداع لأهل جدة ومكة والطائف .
العصيمي / يجب على الحاج من حاضري المسجد الحرام إذا باشر حجه سفراً أن يطوف طواف وداع . ويجب على الحاج من غير حاضري المسجد الحرام طواف وداع إذا انتهى من نسك الحج وأراد أن يخرج خارج المواقيت ، أو يسافر مسافة سفر داخل حدود المواقيت .
فيجب طواف الوداع على أهل الطائف وجدة لأنهم خارج حدود المواقيت المكانية ، ويجب طواف الوداع على أهل الكامل مع أنهم داخل حدود المواقيت ؛ ولكن بينهم وبين مكة مسافة سفرعرفاً ، ولهذا لا يعتبر أهل الطائف ومكة والكامل من حاضري المسجد الحرام .
فإن سقوط طواف الوداع إنما يكون للمكي ، ولمن كان ساكناً داخل حدود الحرم؛ لتخلف علة طواف الوداع في حقهم وهي المفارقة والسفر ، لأن الوداع من المفارق لا مِن الملازم، بل نقل ابن رشدٍ الإجماعَ على أن المكي ليس عليه إلا طواف
الإفاضة .
وقد ثبت في صحيح مسلم مِنْ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( كان الناس ينصرفون في كل وجهٍ ) ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت ) والمراد بالنَفْرِ في هذا الحديث الرحيل ، ولا يصدق هذا إلا على الآفاقي دون المكي ، ومَنْ كان داخل حدود الحرم ، كما هو مذهب جمهور الفقهاء . أما الحنفية فقد ذهبوا إلى أن مَنْ كان منزله دون المواقيت فلا يجب عليه طواف الوداع ، كما ذهب بعض الشافعية إلى أن من خرج إلى دون مسافة القصر ، فلا يجب عليه طواف الوداع كذلك. والصواب - والله أعلم - أن كل من دون المواقيت إذا لم يكن بينه وبين مكة مسافة سفر عرفاً ، فهو من حاضر المسجد الحرام ، لقوله تعالى ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) وحاضر الشيء : القريب منه، الذي ليس بينه وبين مكة مسافة سفر، فحاضر المسجد الحرام ، إذا تمتعوا لا يجب عليهم دم، وإذا انتهى الحج لم يجب عليهم طواف وداع، ما لم يباشر الانتهاء من نسك حجهم سفراً.
@ وطواف الوداع المراد به أن يكون آخر نسك الحج حتى لو طال مكثه بعد ذلك في مكة على القول الراجح والعلم عند الله تعالى ، لأنه نسك متعلق بالحج ،ولهذا لا يجب على من خرج من مكة إذا لم يكن حاجاً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ). يحتمل آخر عهدهم بالبيت من النسك ويحتمل إخر عهدهم بالبيت عند خروجهم من مكة ألى أهاليهم -الذين هم ليسوا من حاضري المسجد الحرام - ، فبلأول قال الحنفية وبالاحتمال الثاني قال الجمهور.
وإذا جآء الاحتمال بطل به الاستدلال إذا كان الاحتمال راجحاً أو مساوياً .
والقاعدة أيضاً : إن النص إذا كان يحتمل أكثر من معنى بحسب وضع واحد - لا بحسب أوضاع متعددة - ولا تعارض بينها حمل على جميع تلك المعاني .
@ حكم طواف الوداع للمكي ومن في حكمه إذا باشر انتهاء نسك حجه سفراً
ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى وجوب طواف الوداع عليه والحالة تلك .
لحديث ابن عباس في الصحيحين قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ،إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ). فيشمل ذلك الآفاقي والمكي الذي باشر نسك حجه سفراً،
وفي لفظ عند مسلم ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ).
ففيه دليل على وجوب طواف الوداع ،لأن الأصل في الأمر الوجوب ، ويؤيده التخفيف عن الحائض مما يدل على عدم التخفيف عن غيرها.خلافاً للحنفية والمالكية حيث قالوا بأن الطواف والحالة تلك سنة ؛لأن الحائض لا يجب عليها طواف الوداع كما في حديث ابن عباس ، ولو كان واجباً لوجب عليها كطواف الإفاضة.
والجواب : بأن سقوط طواف الوداع عن الحائض لوجود العذر ، فدلّ على أن من لا عذر له عليه طواف وداع .
مع اتفاق الجميع على مشروعية طراف الوداع في الحج لأهل مكة ومن في حكمهم إذا أرادوا الخروج منه . واختلفوا في وجوبه على ما سبق .-كما أن الاختلاف في وجوب طواف الوداع يكون للآفاقي والمكي إذا باشر الانتهاء من نسكه سفراً،خلافاً للحنفية حيث ذهبوا إلى أن المكي وأهل الحرم ومَنْ نوى من الآفاقيين الإقامة بمكة لا يجب عليهم طواف الوداع إذا أرادوا مغادرة مكة يوماً من الدهر ،
وعموم النصوص تدل على أن طواف الوداع واجبٌ على كلِّ حاجٍ خارجٍ من مكة ،
لأن سقوط طواف الوداع عن المكي ومن في معناه إنما كان لعلة الملازمة وعدم المفارقة ، فإذا نَفَر وفارق مكة بعد انقضاء نسكه فهو مشمولٌ بالنصوص الآمرة بأن يكون آخر عهده بالبيت ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
ولأنه يشبه الحائض إذا طهرت قبل مفارقة البنيان ولم تكن قد طافت للوداع ، فقد نص الفقهاء على أنه يجب عليها الرجوع والاغتسال والوداع ؛ لأنها في حكم الإقامة .
وعلى هذا فإن حاضري المسجد الحرام : هم من كان دون المواقيت ولم يكن بينه وبين مكة مسافة سفر، وحاضر الشيء لا يحتاج إلى توديع ، لأن حاضر الشيء : القريب منه ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) أي قريبة منه .ومن كان خارج المواقيت ليس قريبا من الحرم ، بدليل قوله تعالى ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) والآفاقي إذا أتى بالعمرة في سفرة من الميقات والعمرة من الميقات لم يجب عليه دم . وسقط الدم عن حاضر المسجد الحرام عند تمتعهم لوجود الحج من ميقاتهم والعمرة من ميقاتهم كذلك ولهذا الآفاقي إذا كان قارناً أو متمتعاً وجب عليه الدم لكونه ترك الإحرام لأحد النسكين من الميقات ، فإذا رجع للميقات للنسك الآخر أنقطع تمتعه وكان مفرداً - وقد أشرنا إلى هذه المسألة سابقاً-
أهل جدة اختلف العلماء في كونها داخل المواقيت أم لا، وقد سبق تقريره.
فإن كانت داخل المواقيت وفِي العرف لا تعتبر سفراً فأهلها من حاضري المسجد الحرام ، لا طواف عليهم للوداع، وإن كانت خارجة عن حدود المواقيت فأهلها عليهم طواف وداع.
فإن نفر لعدم قدرته على طواف الوداع ولم يبق عليه من المناسك إلا طواف الوداع فلا شيء عليه قياساً على االحائض والنفساءبجامع الحاجة في كل، والمانع الحسي ينزّل منزلة المانع الشرعي. كما في حديث ابن عباس( إلا أنه خفف عن الحائض والنفساء) والقاعدة الأصولية : هل يقاس على الرخص، والصحيح الجواز، لأن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مختلفين.
وأما أهل الطائف فليسوا من حاضري المسجد الحرام، لأنهم خارج المواقيت، حتى ولو قيل إن المسافة بينهما لا تعتبر سفراً في العرف.
فإن قيل : حديث عائشة رضي الله عنها - في قصة عمرتها - وفيه أنها لمّا فرغت من عمرتها مع أخيها عبد الرحمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : هل فرغتم؟ قالت: نعم، فأذَّنَ في أصحابه بالرحيل ، فخرج فمر بالبيت ، فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى المدينة متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم .
ألا يدل على أن عائشة طافت وسعت للعمرة وخرجت ولم تطف طواف وداع .
فالجواب : أن الجمهور يستدلون بهذا الحديث على وجوب طواف الوداع بعد انتهاء الحاج من نسكه، وذلك لأن عائشة رضي الله عنها لما فرغت من عمرتها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت وخرج، وظاهر ذلك أنها طافت معه.لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خذوا عني مناسككم).
وعلى فرض أن هذا الحديث لم يدل على ذلك، فإن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فعدم العلم بطوافها بعد عمرتها لا يدل على أنها لم تطف، فيرجع النص المحتمل إلى النص الذي لا احتمال فيه.
كما يمكن أن يقال في الجواب أيضاً : بأن نسك العمرة بعد نسك الحج يقضي على ما يتعلق بالنسك الأول، والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر غير عمرة التي مع حجته ولم يطف للعمرة طراف وداع، مما يدل على أن العمرة لا يجب لها طواف وداع. مع احتمال أن عائشة طافت الوداع قبل عمرتها لأنه نسك من أنساك الحج..
وبعد هذا العرض يتبين أن من جعل آخر نسكه السعي لم يكن آخر عهده بالبيت ، ويجب عليه طواف وداع ليكون آخر عمل له في حجه، والله تعالى أعلم .
كتبه / محمد بن سعد العصيمي / عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة / جامعة أم القرى/ مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق