حكم قول: بعمق هذه السورة -أو الآية- القرآنية أن تشرح صدورنا:
فرق بين السؤال بالله، أو سؤال الله تعالى، وبين التوسل بالشيء إلى الله تعالى.
فقاعدة الأول: إذا كان السؤال بالله تعالى، أو صفة من صفاته، أو حكم من أحكامه جاز وإلا فلا.
-وقد قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى-
- قال تعالى: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) فكل ما هو من أمر الله تعالى لا من خلقه يجوز الحلف به، وسؤال الله تعالى به.
وأمر الله من كلامه، وكلامه من صفاته.
وقال تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) ففي الآية إقرار السؤال بالله .
وفِي الصحيح: (أنشدك الله إلا حكمت بيننا بكتاب الله...) وفيه: (واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سألكم بالله فأعطوه، ومن استعاذكم بالله فأعيذوه...).
وفيه مشروعية السؤال بالله تعالى.
* وكذا: قولك بذمتك: إذا كان المقصود عهد الله وأمانه، جاز، لأن ذلك من صفاته، وإذا كان المقصود: عهد المخلوق وأمانه، لم يجز، لأن المخلوق وعمله مخلوق، ولا يجوز الحلف بالمخلوق إلا من الخالق جلا وعلا.
(لا تحلفوا بأبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله).
* وقاعدة التوسل إلى الله تعالى بالشيء:
أن التوسل إلى الله عبادة، والعبادة لا تكون إلا بما شرع.
فالتوسل: اتخاذ الوسيلة، والوسيلة كل ما يوصل إلى المقصود فهي من الوصل.
لأن الصاد والسين يتناوبان، كما يقال، صراط وسراط وبصطة وبسطة.
والتوسل في دعاء الله تعالى أن يقرن الداعي بدعائه ما يكون سبباً في قبول دعائه ولا بد من دليل على كون هذا الشيء سببـاً للقبول، ولا يعلم ذلك إلا من طريق الشرع، فمن جعل شيئاً من الأمـور وسيلة له في قبول دعائه بدون دليل من الشرع فقد قال على الله ما لا يعلم، إذ كيف يدري أن ما جعله وسيلة مما يرضاه الله تعالى ويكون سبباً في قبول دعائه؟
والدعـاء من العبادة، والعبادة موقوفة على مجئ الشرع بها، وقد أنكر الله تعالى على من اتبع شرعاً بدون إذنه وجعله من الشرك فقال تعـالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (سورة الشورى : 21 )
وقال تعـالى: (اتخـذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) ( سورة التوبة : 31 ) .
* والتوسل في دعاء الله تعالى قسمان:
القسم الأول: أن يكون بوسيلة جاءت بها الشريعة، وهو أنواع:
الأول: التوسل بأسماء الله تعـالى وصفاته وأفعـاله.
فيتوسل إلى الله تعالى بالاسم المقتضي لمطلوبه أو بالصفة المقتضية له أو بالفعل المقتضي، قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)، فيقول: اللهم يا رحيم ارحمني، ويا غفور اغفر لي، ونحـو ذلك وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [اللهـم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ماعلمت الحياة خيراً لي].
وعلم أمته أن يقولوا في الصلاة عليه: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم).
والثاني: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وطاعته كقوله عن أولي الألباب: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا) (سورة آل عمران :193).
وقوله: (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا) ( سورة المؤمنون : 109 ).
وقوله عن الحواريين: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) (سورة آل عمران :53 )
الثالث: أن يتوسل إلى الله بذكر حال الداعي المبيّنة لاضطراره وحاجته.
كقول موسى عليه السـلام: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) ( سورة القصص : 24 ).
الرابع: أن يتوسل إلى الله بدعـاء من ترجى إجابته، كطلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، ومثل قول الرجـل الذي دخل يوم الجمعـة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب
فقال: ادع الله أن يغيثنا، وقول عكاشة بن محصن للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعلـني منهم.
وهذا إنما يكون في حياة الداعي أما بعـد موته فلا يجوز، لأنه لا عمل له فقد انتقـل إلى دار الجزاء، ولذلك لما أجدب الناس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم، بل استسقى عمر بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قم فاستسق، فقام العباس فدعا.
* القسم الثاني: أن يكون التوسل بوسيلة لم يأت بها الشرع وهي نوعان:
أحدهما: أن يكون بوسيلة أبطلها الشرع.
كتوسل المشركين بآلهتهم، وبطلان هذا ظاهر.
الثاني: أن يكون بوسيلة سكت عنها الشرع.
وهذا محرم، وهو نوع من الشرك، مثل أن يتوسل بجاه شخص ذي جـاه عند الله فيقول: أسألك بجاه نبيـك. فلا يجوز ذلك لأنه إثبات لسبب لم يعتبره الشرع.
ولأن جاه ذي الجاه ليس له أثر في قبول الدعـاء لأنه لا يتعلق بالداعي ولا بالمدعو، وإنما هو من شأن ذي الجاه وحده، فليس بنافع لك في حصول مطلوبك أو دفع مكروبك، ووسيلة الشيء ما كان موصلاً إليه، والتوسل بالشيء إلى ما لا يوصـل إليه نوع من العبث، فلا يليق أن تتخذه فيما بينك وبين ربك.
والقاعدة: كل من اتخذ سبباً لم يجعله سبباً لا شرعاً ولاحساً فقد أشرك شركاً أصغر.
-كما قرر ذلك شيخنا العثيمين-.
* وبناء على هذا التقعيد، فإن قال بعمق هذه السورة أو الآية أن تشرح صدورنا أو أي دعاء:
فالجواب: أن هذا اللفظ، يحتمل أن مراد من قاله، سؤال الله أو السؤال بالله بصفة من صفاته، أو فعل من أفعاله، فيجوز، وأما إذا قصد صفة العبد أو فعله، فلا يجوز سؤال الله تعالى أو السؤال به.
وذلك أن العمق يطلق ويراد به الحق
أي بالحق الذي جعله الله لهذه الآية أو الحق الذي جعله الله لهذه السورة، وهذا الحق غير مخلوق، فيجوز التوسل إلى الله تعالى بصفاته وأفعاله.
ويطلق العمق ويراد: التفكر والتأمل الذي يكون من المخلوق، فإذا كان هذا المقصود، فيجوز التوسل إلى الله تعالى بأفعال العبد، كما في قصة الذين صكت عليهم الصخرة (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه).
* وأما التوسل لله تعالى بعمق السورة، أو الآية.
فإذا كان من باب التوسل لله تعالى تعالى بصفة من صفاته يجوز، لأن القران من كلام الله تعالى وكلام الله من صفاته، وكذا لو كان من باب التوسل إلى الله تعالى بأفعاله، وما جعل لكلام الله تعالى من أثر على المخلوق كان ذلك من التوسل المشروع -كما سبق-.
أو كان من فعل العبد، بما تدبر وتأمل وأثرت تلك الآية أو السورة في نفسه، فيتوسل بفعله إلى الله تعالى كان من التوسل الجائز.
فما كان من أنواع التوسل الجائز كما سبق جاز وما لا فلا -وهذا كله فيما إذا كان المراد هو التوسل إلى الله تعالى بالشيء -.
* علماً بأن العمق له إطلاقات ومعان في لغة العرب:
يقال لي في هذه الدار عمق أي: حق، وما لي فيها عمق أي: حق.
وعمق النظر في الأمور تعميقا وتعمق في كلامه أي: تنطع. وتعمق في الأمر: تنوق فيه، فهو متعمق.
ويطلق العمق، ويراد البعد إلى أسفل.
والله تعالى أعلم وأحكم.
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق