حكم منع السائل عن السؤال في المسجد:
-----
١- قال تعالى: (وأما السائل فلا تنهر) .
فالسائل لا تزجره، بل أطعمه.
٢- وروى مسلم في صحيحه: (أن قوماً من مضر جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم صلى الله عليه وسلم تمعر وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فدخل إلى منزله ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة...} إلى آخر الآية، والآية الأخرى التي في آخر الحشر: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره) حتى قال: (ولو بشق تمرة)، فجاء رجل من الأنصار بِصُرِّة كادت كفه تعجز عنها، بل عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومتين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه ورزها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء}.
فإذا كان الإنسان يجوز أن يسأل لغيره في المسجد -كما صرحت بذلك روايات صحيحة-، جاز أن يسأل لنفسه في المسجد عند الاضطرار للسؤال، يستوي السؤال في المسجد وفي غيره على حد سواء.
٣- ما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكيناً؟)، فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كِسْرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه)
قال المنذري: قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا الإسناد وذكر أنه روي مرسلا .اهـ.
وفيه مبارك بن فضالة ضعفه جمع من الأئمة.
ففيه التصريح بأن السؤال كان في المسجد.
٤- عن أَبُي الجُوَيْرِيَةِ، أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلَيَّ، فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ)
فيه دليل على جواز وضع الدنانير عند من في المسجد ليتصدق بها على السائل في المسجد وغيره.
* قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: أصل السؤال محرم فى المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة فإن كان به ضرورة وسأل فى المسجد ولم يؤذ أحداً بتخطيه رقاب الناس ولا غير تخطيه ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهرا يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علما يشغلهم به ونحو ذلك جاز والله أعلم.
فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أنشد ضالة في المسجد: (لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لذلك) وهي لم تبن للسؤال.
فالجواب: أن ما ورد بعدم جوازه في المسجد كأنشاد الضالة فيها لا يجوز، وما لم يرد فالأصل فيه الجواز، فإنها لم تبن لأنشاد الأشعر المباحة ولا للأكل ولا للشرب، ولا للنوم، ونحو ذلك، وكل ذلك يجوز في المسجد، فقد دخل عمر وحسان ينشد في المسجد شعراً فلحظ إليه، فقال: لقد كنت أشعر فيه، وفيه من هو خير منك)، يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أهل الصفة يأكلون ويشربون وينامون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
* فإن قيل: هذا يخالف المظهر الحضاري.
فالجواب: أن مصلحة دفع ضرورة المضطر أولى من المظاهر المزعومة، والتي تحتاج إلى دليل يدل على اعتبارها.
والقاعدة: كل اجتهاد يعود على النص بالإبطال فهو باطل.
* فإن قيل: هذا يخالف تعليم إدارات شؤون المساجد.
فالجواب من أوجه:
أ- أن المنع من المباح لا يكون إلا لمصلحة راجحة، قال تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله).
ومصلحة دفع حاجة المضطرين أولى من غيرها.
وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد كما سبق.
ب- أن المصلحة المتحققة أولى في الاعتبار من المصلحة الموهومة -من دعوى كذب السائل ونحوه-.
ج- أن ما أباحه الشارع لا يعارض إلا بما هو محرم شرعاً، كعلمنا بأن السائل كاذب، فإن من نصرته رده عن كذبه والانكار عليه لكذبه.
* فإن قيل: إن من هؤلاء من هو كاذب ومتكثر بجمع المال.
فالجواب:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم يعامل الناس معاملة الظاهر ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، ومن ذلك فعله مع المنافقين لما رجع من غزوة تبوك، فجاء المنافقون يعتذرون إليه، فيقبل ذلك معاملة لهم بالظاهر.
ب- أن من أعطى يتعامل مع الله تعالى، فيقع أجره على الله تعالى، والكاذب لا يضر إلا نفسه.
-وقد سبق بيان -حكم المسألة للمال-.
ج- من علم كذب السائل جاز له منعه والإنكار عليه، وما لا فلا.
والله تعالى أعلم.
كتبه / أبو نجم / محمد بن سعد العصيمي / كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق