——
الخلاصة: يجوز الدعاء على الكافرين بالهلاك التام.
———-
١- قال تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ويعني بالدَّيار: من يدور في الأرض، فيذهب ويجيء فيها.
والشاهد: الدعاء على الكافرين بالهلاك التام.
والقاعدة: شرع من قبلنا إذا ثبت في شرعنا أنه شرع لهم، ولم ينسخه شرعنا، فهو شرع لنا.
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده).
فإن قيل: إنما دعا عليهم لما نزل عليه: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن).
فالجواب: ومع ذلك دعا علهم بالهلاك التام، فالعلم باستجابة الله تعالى لا يمنع عدم الدعاء لمن لم يعلم استجابة الله تعالى له في ذلك الدعاء.
وأيضاً: الدعاء عليهم بالهلاك التام ليس بمستحيل، ومن قال باستحالته فعليه الدليل، ففي هذه الآية دليل على عدم استحالة هلاك جميع الكافرين، ولو كان ذلك منسوخاً، فأين الناسخ ؟
فإن قيل: الارتباط بين الحقيقية الكونية، والحقيقة الشرعية، ارتباط وثيق، فالأمر الكوني متعلق بتوحيد الربوبية، والحقيقة الشرعية متعلق بتوحيد الإلهية.
ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض أو في مقام أو حال، نقص في إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية... كما أشار إليه ابن تيمية رحمه الله تعالى.
والمسلم لا يترك توحيد الربوبية من توحيد الله تعالى في أفعاله وأسمائه وصفاته، والإيمان بأمره الكوني، بل يحققه، ويحقق الأمر الشرعي المتعلق بتوحيد الإلهية.
فالجواب: أما الكلمات الكونيات فهي كلمات الله التي يخلق ويدبر بها الخلق، مثل كلمة (كن)، وغير ذلك من الأوامر الكونية التي يأمر بها المخلوقات، كأمره للملائكة المسخرة، وأمره للسماء والأرض وغير ذلك من الأوامر والكلمات التي تتعلق بالربوبية، فهذه كلمات الله الكونية.
فالكلمات الكونيات: هي التي تتعلق بالربوبية من الخلق والتدبير.
والكلمات الدينية: هي ما يتعلق بالوحي والشرائع، الذي فيه توجيه العباد وأمرهم ونهيهم.
ولا تعارض بينهما في تحقيق توحيد الربوبية والإلهية وتوحيد الأسماء والصفات.
٢- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوه -أذابوه- ثم باعوه وأكلوا ثمنه).
ففيه جواز الدعاء على اليهود بالهلاك، لأن قاتل بمعنى: أهلك. مع أنه جاء في الخبر أنهم يكونون في آخر الزمان، وفيه: (حتى يقول الشجر والحجر، يا مسلم: خلفي يهودي تعال فاقتله).
فإن قيل (قاتل) تحتمل أيضاً أنها بمعنى: لعن، والقاعدة: إذا جاء الاحتمال بطل به الاستدلال.
فالجواب: أن الاحتمال الذي يبطل به الاستدلال: هو الاحتمال الراجح والمساوي لا المرجوح، وهذا المعنى مرجوحاً.
وذلك لأن القاعدة: اشتقاق المعنى من مادة النص أولى من اشتقاقه من غير مادته.
ومن قاتله الله تعالى: أهلكه، فالهلاك مشتق من مادة النص (قاتل)، بخلاف لعن فليست مشتقة من مادة النص، وقد بينته في القواعد.
وأدلة لعن اليهود ورد من أدلة أخرى في التنصيص على لعنهم فلا ينفي الدعاء عليهم بالهلاك أيضاً.
فإن قيل: الدعاء على الكافرين بالهلاك التام، لا يجوز، وغيرُ مشروع، لأنه يخالفُ ما عُلِمَ مِن سنّة الله مِن وجود أوليائه وأعدائه ليبلو بعضهم ببعضٍ..
فالجواب من أوجه:
١- الدعاء على الكافرين بالهلاك لا ينافي سنة الله تعالى الكونية، وقد سبق الفرق بين أمر الله تعالى الكوني، وأمر الله تعالى الشرعي.
٢- لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل، قال: (إن الله إذا أراد شيئا خلقه)، وقال جابر: (كنا نعزل والقران ينزل) مما يدل على أن فعل الأسباب لا ينافي القدر.
والدعاء بهلاك الكفار، سبب لنصرة المسلمين، ولا ينافي قضاء الله وقدره.
٣- ووجود الكفار من يهود أو غيرهم لا يستلزم هلاكهم قبل ذلك ثم وجودهم.
فقد هلك الكفار بعد إغراقهم في عهد نوح عليه السلام ثم وجدوا بعد ذلك.
٤- ولأن سنة المدافعة لا تقتضي عدم هلاكهم في برهة من الزمن.
٥- ولأن الدعاء بهلاكهم قد يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد من الإطلاق بهلاكهم، يراد به من حارب الله ورسوله والمؤمنين.
٦- ولأن الدليل العقلي إذا عارض الدليل الشرعي لا عبرة به.
٧- ولأن القول بعصمة الكافرين من الهلاك العام يحتاج إلى دليل، بل الوارد عدم هلاك أمة النبي صلى الله عليه وسلم أمة الدعوة: (أن لا يهلكهم بسنة عامة) ومفهومه: إمكان حصوله لغيرهم.
٨- لا يلزم من عدم الإرادة الكونية، عدم الإرادة الشرعية، كالدعاء للكافر بالهداية مع عدم تحقق هدايته حتى الموت.
والله تعالى أعلم.
كتبه/ د. محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق