هل لمرأة العنين المطالبة بالفسخ بعد كونها راضية به، كما لو تزوجته عالمة بعنته:
حكم الحقوق المتجددة، وغير المتجددة:
————
العنين: هو الذي لا يستطيع الجماع لسبب يمكن زواله.
بخلاف مقطوع الذكر ونحوه مما لا يمكن قدرته على الوطء في المستقبل، فلزوجته الفسخ فوراً عند المطالبة دفعاً للضرر الواقع عليها.
فالعُنّة: عيب يمنع الانتصاب والانتشار، فلا يتمكن معه الزوج من الوطء.
فهي العجز عن الوطء في القُبُل، لعدم انتشار الآلة، وسمي العِنِّين بذلك للين ذكره وانعطافه، مأخوذ من عنان الدابة.
١- ذهب جمهور الفقهاء أنّ المرأة إذا ادّعت أنّ زوجها عنّين لا يصل إليها وثبتت عنّته أجّل سنةً.
واستدلّ الجمهور بقضاء عمر رضي الله عنه، قال في النّهاية: أجمع المسلمون على اتّباع عمر رضي الله عنه في قاعدة الباب، وبأنّ التّأجيل لإبلاء العذر، وتأجيل السّنة عذر كاف، وبأنّ العجز قد يكون لعنّة وقد يكون لمرض، فضربت السّنة ليتبيّن أنّه عنّة لا مرض، فإذا مضت السّنة ولم يصل إليها علم أنّه لآفة أصليّة، فقد تكون علّة العجز هي الرّطوبة فيستطيع في فصل الحرّ، والعكس، أي إن كان المرض من برودة أزاله حرّ الصّيف، أو من رطوبة أزاله يبس الخريف، أو من حرارة أزاله برد الشّتاء، أو من يبس أزالته رطوبة الرّبيع، على ما علم عادةً، أو ربّما أثّر الدّواء في فصل دون فصل، ويعالج نفسه في هذه السّنة.
وعلّة تبيّن العجز الخلقيّ أو استمرار العجز هي علّة ظنّيّة، فيعمل بها حتّى في حالة التّخلّف أحياناً، كحالة من أتى زوجةً دون أخرى.
والجواب: أن هذا من قول عمر رضي الله عنه، وقول الصحابي يستأنس به ولكن ليس بحجة في الأحكام الشرعية -كما تقدم في القواعد-.
ثم هو اجتهاد من عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهو قابل للصواب والخطأ.
فكان ذلك من باب القضاء الخاضع للاجتهاد، لا من باب التشريع.
وأيضاً: هو معارض بما جاء في الإيلاء، وهي المدة التي جعلها الشارع في تحمل الزوج من الزوجة في عدم الوطء بدون سبب، وهي أربعة أشهر، قال تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فآووا فإن الله غفور رحيم...).
وكل ذلك من أجل دفع الضرر عن المرأة بترك الجماع.
فإن قيل: كيف يقع الخلاف وقد حكي الإجماع على ذلك.
فالجواب: أن الإجماع لم يصح، فقد خالف الشافعية وغيرهم.
ولأن المراد بدعوى الإجماع ههنا: هو عدم العلم بالمخالف، ومن علم حجة على من لم يعلم.
ولهذا قال قال ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار" (6/ 193): ولا أعلم بين الصحابة خلافا في أن العنين يؤجل سنة من يوم يرفع إلى السلطان، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم- وقد ذكرنا الخبر عنهم بذلك عن عمر وعلي -رضي الله عنهما-...
قال أبو عمر: على هذا جماعة التابعين بالحجاز والعراق: أن العنين يؤجل سنة، من يوم يرفع إلى السلطان.
وقد روي عن بعضهم بأنه أجله عشرة أشهر وليس بشيء.
وإنما أجله سنة، فيما ذكر والله أعلم، لتكمل له المداواة والعلاج في أزمان السنة كلها، لاختلاف أعراض العلل في أزمنة العام وفصوله، فإن لم يبرأ في السنة يئسوا منه، وفرق بينه وبين امرأته" انتهى.
ويرى بعض أهل العلم أنه إن ثبت للقاضي العجز المرضي عند الزوج: فسخ النكاح ولم ينتظر سنة.
فقد نفى عدم العلم ثم ذكر الخلاف.
٢- وقال الشّافعيّة: لا يؤجّل سنةً إلاّ إذا طلبت الزّوجة، فإن سكتت لم تضرب المدّة، فإن كان سكوتها لدهشة أو غفلة أو جهل، فلا بأس بتنبيهها.
وذلك لحديث: (لا ضرر ولا ضرار).
ولأن بقاءها في ذمته مع حاجتها للجماع وعدم رضاها بذلك، من المعاشرة بغير المعروف، وقد قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف).
ولأن الضرر الذي يصيبها بذلك أعظم من الضرر من المولي الذي يمكنه الجماع،
فما غلب على الظن عدم قدرته مطلقاً أشد من الضرر الواقع بترك الجماع مع قدرته عليه.
ولأن القاعدة: العبرة بالمنظور لا بالمنتظر.
فإذا ثبتت عنته، كان حق الفسخ منها له من أجل دفع الضرر المتحقق الحال لا بالمتوهم المؤجل.
وعلى هذا: فلو قيل بقياس المدة في التأجيل في باب العنة على مدة الإيلاء لكان وجيهاً، فيعطى العنين فترة أربعة أشهر لعل وعسى، فإن لم يستطع الجماع تم الفسخ،
وذلك لأنه إذا كان المولي يعطى تلك الفترة مع قدرته على الوطء وعدم وجود العذر، فمع وجود العذر من باب أولى في أعطاء تلك المدة.
فإن قيل: قياس العنة على الإيلاء أو جعلهما كشئ واحد قياس مع الفارق، وذلك أن
الإيلاء فيه تعمد الإضرار بالمرأة بترك معاشرتها ومعاملتها فلا وجه لإمهاله السنة أو فوق ما شرع الله تعالى.
وأما العنة أو ماشابهها فهو مرض أو ضعف ينظر صاحبه لعله يبرأ.
وقياس الضرر في هذا على الضرر في ذاك كقياس فعل المخطئ على فعل المتعمد من كل وجه.
فالجواب: أن الضرر إذا وقع على المرأة ضرراً فاحشاً عرفاً يقع به خيار الفسخ للمرأة، سواء كان بالعنة أو الإيلاء أو غيرهما، وحقوق المخلوقين لا تسقط إلا بإسقاطهم، ولا فرق بين تعمد الضرر عليهم من عدمه، لأن حقوق المخلوقين لا تسقط بالجهل والنسيان -كما تقدم في القواعد-.
ولما كان مدة الضرر الفاحش في الإيلاء ونحوه مما يختلف بين النساء، ولا ينضبط
جعل الشارع له مدة محددة، ونزلت المظنة منزلة الشيء.
والقاعدة: المعلل بالمظان لا يتخلف الحكم بتخلف حكمته -وقد سبق تقريرها في القواعد-.
ومخافة قول الجمهور لا تستلزم مخالفة الحق، ولو كانت المسألة محل إجماع لم يسع المسلم مخافته.
٣- لا تثبت العنّة بمجرد دعوى الزوجة على زوجها أنه لم يطأها. بل تثبت بإقرار الزوج، أو يثبت ذلك بالفحص الطبي له، لأن البينة: هي كل ما أبان الحق ووضحه على أي وجه كان.
٤- إذا رضيت بالزوج عنيناً، فإذا كان العقد انعقد عليه وهي عالمة بذلك، فلا وجه لفسخها لكون العوض من المهر كان على هذا الشرط.
وأما إذا لم تعلم بكونه عنيناً إلا بعد عقد النكاح، فهو من الحقوق المتجددة، والذي يظهر لي رجحانه: أن الحقوق المتجددة إذا كانت على عوض، ليس لأحد المطالبة بفسخها بعد لزومها، وإذا كانت بلا عوض، ولم يتم العقد على اشتراطها، فلصاحب الحق المطالبة بما يستقبل من حقه لا بما فات وقد أسقطه.
فمثلاً إسقاط القسم للمرأة أو النفقة إذا تم العقد على اشتراطه أو أخذت المرأة عوضاً على إسقاطه، فليس لها المطالبة بما يستجد من ذلك الحق، بخلاف ما إذا تبرعت بيومها لضرتها، بلا عوض، ثم تراجعت فلها ما يستقبل من أيامها لا بما مضى.
فإن قيل: هي مفرطة فتتحمل نتيجة تفريطها.
فالجواب: أن الإنسان لا يكون مفرطاً إلا إذا فعل ما لا يجوز أو ترك ما وجب.
وهذه تبرعت بما يجوز لها التبرع به، ولم تفعل ما لا يجوز، ولم تترك ما وجب.
والله تعالى أعلم.
كتبه/ د. محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق