بسم الله الرحمن الرحيم
(فقه آيات الأحكام 3)
في يوم الإثنين، الموافق ١٤٤٤/٧/١٥ من الهجرة.
——————————————————
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ فَاجتَنِبوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ إِنَّما يُريدُ الشَّيطانُ أَن يوقِعَ بَينَكُمُ العَداوَةَ وَالبَغضاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهونَ ﴾. [المائدة: ٩٠-٩١]
——————————————————
- قوله تعالى:﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا الخمر ﴾: (إنما) أداة حصر، وهي إثبات الحكم المذكور ونفيه عما سواه، وقيل: [وهو الراجح] : إنها تأكيد للحكم المذكور ، ولا تنفي الحكم عن غيره، وهو الأقرب.
أففيها إثبات للحكم المذكور، ولا تعني نفيه عما سواه؛ بدليل قوله ﷺ:( إنما الربا في النسيئة)
مع وجود ربا آخر، وهو ربا الفضل كما في حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً «. الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلْحُ بالمِلْحِ: مِثْلًا بمِثْلٍ، يَدًا بيَدٍ، فمَن زاد أوِ ازداد فقد أَرْبى».
وتأول من قال بالقول الأول ( إنما الربا في النسيئة) أي الربا الأعظم والأشد.
وبناء على ذلك فإن (إنما) ليست من أدوات الحصر، وإنما هي لتأكيد الحكم للمذكور، ولا تعني نفيه عن غيره.
و(الخمر): الاصل فيه في لغة العرب: الستر، فالساتر على الشيء يسمى خمراً، ومنه قوله تعالى:﴿ وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيوبِهِنَّ ﴾.
والمراد بالخمر هنا: ما خامر العقل وغطاه، على وجه اللذة والطرب، ويلحق بها ما شابهها مما هو أشد منها كالمخدرات وكذلك ما يسمى بالشبو.
* كان تحريم الخمر على التدريج، حماية للعقل، فأنزل الله تعالى ابتداءً:﴿ ﴿لَيسَ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فيما طَعِموا إِذا مَا اتَّقَوا وَآمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ ﴾ [المائدة: ٩٣].
وكذلك قوله سبحانه:﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُم سُكارى حَتّى تَعلَموا ما تَقولونَ وَلا جُنُبًا إِلّا عابِري سَبيلٍ حَتّى تَغتَسِلوا وَإِن كُنتُم مَرضى أَو عَلى سَفَرٍ أَو جاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الغائِطِ أَو لامَستُمُ النِّساءَ فَلَم تَجِدوا ماءً فَتَيَمَّموا صَعيدًا طَيِّبًا فَامسَحوا بِوُجوهِكُم وَأَيديكُم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفورًا ﴾ [النساء: ٤٣].
ثم نزل قوله سبحانه:﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ فَاجتَنِبوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ ﴾ [المائدة: ٩٠].
- قوله تعالى:﴿ وَالمَيسِرُ ﴾: وهو المغامرة فيما يحرم فيه المغامرة شرعًا، ومنه المسابقة التي بالعوض، قال ﷺ « لا سبَقَ إلا في نَصلٍ أو خُفٍّ أو حافِرٍ.»، ويقاس عليها الآلات الحرب والقتال من الطيارات والسفن الحربية.
وللمسابقة ثلاثة أحوال:-
1. أن تكون في نصل أو خف أو حافر: ويقاس عليها جميع آلات الجهاد، وهذه تجوز فيها العوض من مال أو غيره، سواء منهما أو من أحدهما أو من طرف ثالث أجنبي.
2.- المسابقة في المباحات: كالجري على الاقدام ولعب الكرة، فإن كانت بعوض فلا تجوز، أما بدون عوض فهي جائزة.
3. - إذا كان الشيء المتسابق فيه محرماً ، وفيه عوض:
فيكون محرمان في آن واحد ، ويقاس عليه اللعب بالنرد؛ لقوله ﷺ:« مَنْ لعِبَ بالنَّرْدِ فقد عصى اللهَ ورسولَه»، وقال ﷺ « مَن لَعِبَ بالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأنَّما صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ ودَمِهِ». والنرد والنردشير مسميان للعبة واحدة، وتسمى في عصرنا هذا بالزَّهر.
- قوله تعالى:﴿ وَالأَنصابُ ﴾: هي الاوثان التي يعبدونها، ويذبحون عندها، ويتقربون بها واسطة بينهم وبين الله.
- قوله تعالى:﴿ وَالأَزلامُ ﴾: جمع: زلم، وهو: السهم الذي لا ريش فيه، فيجعلونها تختار لهم الذهاب أو عدمه، فهي من التشاؤم المحرم، لحديث :« ويَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن من أمتي سَبْعُونَ ألْفًا بغَيرِ حِسَابٍ ولا عذاب ، ولا عقاب ». قيل منهم؟ : « هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
- قوله تعالى:﴿ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ ﴾: أي: سخط، وهي نجسة نجاسة معنوية وليست حسية.
بذليل قوله تعالى ( من عمل الشيطان).
- قوله تعالى:﴿ إِنَّما يُريدُ الشَّيطانُ أَن يوقِعَ بَينَكُمُ العَداوَةَ وَالبَغضاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهونَ ﴾:
فالميسر : كل مخاطرة محرمة، فإن كان فيها مغالبة فهي القمار .
والميسر يسبب العداوة والبغضاء في الاعم الاغلب، ويكون صادًا عن ذكر الله في الاعم الاغلب، أيضًا عن الصلاة، فكل ما يصد عن ذكر الله فهو محرم، ومنه لعب الورقة المسمى بالبلوت؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
فإن قيل أن أحدهم يلعبها ولا تصده عن الصلاة؟
فالجواب: أن عندنا قاعدة، وهي:
1/ قاعدة: العبرة بالجنس لا بالمفرد.
2/ قاعدة: العبرة بالأعم الأغلب لا بالقليل والنادر.
- موضعها من الآية. :(والميسر).
- العلاقة بينهما: فلما كانت تسبب ذلك غالباً صارت محرمة.
- قوله تعالى:﴿ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهونَ ﴾، وهنا قاعدة وهي:
3/ قاعدة: فرق بين العلة المركبة والعلة المنفردة.
بمعنى : فرق بين أجزاء العلة الواحدة ، وبين العلل المتعددة ،
فالحكم لا يثبت بحزء من العلة، ويثبت بالعلة الواحدة التامة.
- موضعها من الآية. :(ويصدكم عن ذكر الله).
- العلاقة بينهما:
1. أن العلة إن كانت تحتوي على أجزاء فإن الحكم لا يثبت إلا بثبوت جميع هذه الأجزاء، مثالها: حديث« تلْكَ صلاةُ المنافقِ تلْكَ صلاةُ المنافقِ يرقبُ الشَّمسَ حتى إذاكانت بينَ قرني شيطانٍ قامَ فنقرَ أربعًا لا يذْكرُ اللَّهَ فيها إلَّا قليلًا». فاجتمعت فيها ثلاث علل، فلا تكون صلاة المرء صلاة المنافق حتى تجتمع العلل الثلاث، لأنها علة مركبة من أجزاء، وليست علل متعددة.
2. وإن كانت العلة منفردة فكل علة صالحة لإثبات الحكم، مثل :( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ).
فكل ما يوقع العداوة والبغضاء، وإن لم يصد عن ذكر الله ، فهو حرام.
وكل ما يصد عن ذكر الله في الأعم الأغلب فهو حرام .
وكل ما يصد عن الصلاة في الأعم الأغلب فهو حرام .
——————————————————
قال تعالى: ﴿لَيسَ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فيما طَعِموا إِذا مَا اتَّقَوا وَآمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ ﴾. [المائدة: ٩٣]
——————————————————
سبب النزول:
أنه ماتَ رجالٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ ﷺ قبلَ أن تُحرَّمَ الخمرُ ، فلماحرمت الخمرُ ، قالَ رجالٌ : كيفَ بأصحابِنا وقد ماتوا يَشربونَ الخمرَ ؟ فنزلت:﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾.
——————————————————
- قوله تعالى:﴿ لَيسَ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ ﴾: جناح: أي إثم، واستدل بعض أهل العلم من مفهوم هذه الآية أن الكفار في كل ما يلبسونه ويشربونه يأثمون عليه، ويكون عليهم جناح، أما المؤمنون فلا جناح عليهم.
وهذا الذي قالوه فيه نظر؛ لأن القاعدة:
4/ قاعدة: كل خطاب لرفع التوهّم، لا مفهوم له.
وهي جزء من قاعدة:
5/ قاعدة: التخصيص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم به لم يبق مفهومه حجة.
6/ قاعدة: ما كان جواباً لسؤال فلا مفهوم له.
- موضعها من الآية. :(جناح).
- العلاقة بينهما: سبق.
- قوله تعالى:﴿ لَيسَ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فيما طَعِموا إِذا مَا اتَّقَوا وَآمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ﴾: أي أنهم استسلموا وقبلوا وعملوا، لأنه الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، والبراء من أهله.
- قوله تعالى:﴿ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنوا ﴾ اي استمروا على التقوى والإيمان.
- قوله تعالى:﴿ ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ ﴾: أي اتبعوا هذا الإيمان بالإحسان، والإحسان مع الناس: هو بذل الخير للغير، والإحسان مع الله: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ومراتب الإسلام ثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان.
——————————————————
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُم سُكارى حَتّى تَعلَموا ما تَقولونَ وَلا جُنُبًا إِلّا عابِري سَبيلٍ حَتّى تَغتَسِلوا وَإِن كُنتُم مَرضى أَو عَلى سَفَرٍ أَو جاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الغائِطِ أَو لامَستُمُ النِّساءَ فَلَم تَجِدوا ماءً فَتَيَمَّموا صَعيدًا طَيِّبًا فَامسَحوا بِوُجوهِكُم وَأَيديكُم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفورًا ﴾ [النساء: ٤٣].
——————————————————
ومن شرب الخمر فهل العقوبة الجلد حداً أم تعزيراً. العلماء في ذلك على قولين:
1. -أنه حد؛ لأنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي اللهُ عنهُ شاورَ الناسَ في حَدِّ الخمرِ ، وقال إنَّ الناسَ قد شرِبوها واجْترؤاْ عليها ، فقال لهُ عليٌّ رضي الله عنه: إنَّ السكرانَ إذا سَكِرَ هَذَى ، وإذا هَذَى افترى ، فاجعلْهُ حَدَّ الفِرْيَةِ ، فجعلَهُ عمرُ حَدَّ الفِرْيَةِ ثمانينَ.
2. - وقيل أنها عقوبة تعزيرية؛ لأنه أُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسَكْرَانَ، فأمَرَ بضَرْبِهِ. فَمِنَّا مَن يَضْرِبُهُ بيَدِهِ ومِنَّا مَن يَضْرِبُهُ بنَعْلِهِ ومِنَّا مَن يَضْرِبُهُ بثَوْبِهِ، ولم يكن هذا محددًا فدل على أنها تعزير، وهو الراجح والله تعالى أعلم.
- قوله تعالى:﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ ﴾
1.- قيل المراد بالصلاة: أوقات الصلاة، وهذا كان في ابتداء الأمر من تحريم الخمر، فكانوا لا يستطعون شرب الخمر إلا بعد العشاء وبين الفجر والظهر؛ وذلك لأن لا يدكهم وقت الصلاة وهم سكارى.
2. - وقيل: أن المراد مواضع الصلاة، فلا تقربوا مواضع الصلاة وانتم سكارى او كنتم على جنابة إلا عابري سبيل: أي تمرون كأن يدخل مع الباب ويخرج مع الآخر،
والأول هو الأقرب، لأن القاعدة:
7/ قاعدة: مالا يحتاج إلى إضمار أولى مما يحتاج إلى إضمار.
- موضعها من الآية. :(سبق).
- العلاقة بينهما: ونظير ذلك قوله ﷺ:« ذَكاةُ الجنينِ ذَكاةُ أُمِّه»، وهذا ما إذا خرج ميتًا، أما لو خرج جنين الضأن وفيه حياة مستقرة فيلزم تذكية لوحده.
وهذا قول الجمهور: أن ذكاة الأم تكفي عن ذكاة الجنين ما لم يكن به حياة مستقرة ، للحديث( ذكاة الجنين ذكاة أمه).
وخالف الحنفية: وقالوا أن معنى الحديث (ذكاة الجنين كذكاة أمه) فأضافوا الكاف فانقلب المعنى.
وقول الجمهور أرجح لأنه لا يحتاج إلى إضمار فيه.
والله أعلم .
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
كتبها عنه تلميذه : سعود بن صالح الزهراني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق