بسم الله الرحمن الرحيم
(فقه آيات الأحكام 3)
في يوم الإثنين، الموافق ١٤٤٤/٦/٢ من الهجرة.
——————————————————
قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. [البقرة:٢١٧].
——————————————————
سبب نزول هذه الآية: أن النبي ﷺ أرسل أول سرية من سراياه بعد الهجرة، وأمّر عليها عبد الله ابن جحش، وهو ابن عم رسول الله ﷺ، وكتب لهم كتاب وأمرهم ألا يفتحوا هذا الكتاب إلا بعد مسيرة يومين، فلما فتحوا الكتاب إذا فيه أمرهم بالتوجه إلى وادي نخلة -وهو بين مكة والطائف بالقرب من طريق السيل، ويقال إنه شرائع النخل- وأمرهم بأن لا تكره أحداً من أصحابك على المسيرة معك، ثم مرت بهم قافلة تجارة لقريش وهي متجه من الطائف إلى مكة، وكانت في آخر جمادى وأول رجب، فتشاورو فيما بينهم وقالوا: إن تركتموهم، دخلو الحرم، فقاتلوهم،
وكان على السرية من كفار قريش عمرو الحضرمي وكان قائدهم، فرماه رجل من المسلمين فأرداه قتيلاً، وأسروا اثنين ثم أخذوا ما معهم من أموال، ثم أتوا بهم إلى المدينة، وبعد هذه الوقعة عيّر الكفار المسلمين وقالوا: إن محمداً يدعوا بأنه يطيع الله، وهو يستحل الشهر الحرام ويقاتل فيه، وذلك لأن الصحابة توهموا في أنهم في آخر جمادى وهم في أول رجب ، فنزلت هذه الآية.
- قوله تعالى:﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ ﴾،أي: أن التعرض فيه للناس كبير وعظيم،
ولكن أنتم- يا كفار قريش- أتيتم فيه بما هو أعظم وأشد مما وقع فيه المسلمون،
وهذا إيضاح من المولى عز وجل بأن القتال في هذه الأشهر الحرم أمر عظيم، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاث متتاليات وواحد منفرد،
- قوله تعالى:﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: أي وصد عن دين الله وعن الإسلام بفتنة المسلمين، والسعي في صد من آمن بالله عن دين الله.
- قوله تعالى:﴿ وَكُفْرٌ بِهِ ﴾: أي كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
و قوله تعالى:﴿ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾: أي وصد عن المسجد الحرام الذي لا يجوز لأحد من الناس صد المسلمين عنه، كما قال ﷺ:« يا بني عبدِ منافٍ لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيتِ أو صلَّى أيةَ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ»، وقال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ…﴾، (آمين البيت): (أمّ) أي توجه، ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضاً … أريد الخير أيهما يليني
أ أ الخير الذي أنا ابتغيه … أم الشر الذي هو يبتغيني
- قوله تعالى:﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ﴾: أي أن إخراجكم الرسول ﷺ والمؤمنون أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام .
كما فعلتم ذلك في صلح الحديبية لما منعوا رسول الله ﷺ من دخول مكة، وحصل بينهم اتفاقيات وشروط معينة
- قوله تعالى:﴿ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ ﴾ الفتنة: أي الشرك الذي وقعتم فيه أعظم من القتل.
وقد اختلف العلماء في حكم القتال في الشهر الحرام:
1- فقيل إنه منسوخ بقوله تعالى ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾،
وقوله تعالى﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾
، وأن هذا كان في أول الإسلام، بمعنى أنه لا يجوز بدء أحدهم بالقتال ما لم يبدء الكفار بذلك.
2- والقول الثاني: قيل أن الأمر غير منسوخ، وأن الآيات في تحريم القتال في الأشهر الحرم باقية غير منسوخقٍ،
قال تعالى:﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ولأن النسخ لا يكون إلا بشرطين:
1. أن نعلم المتقدم من المتأخر.
2. ألا يمكن الجمع بينهما،
وهنا في هذه الآية يمكن الجمع بينهما.
وهذا هو الأقرب : وهو عدم النسخ.
- قوله تعالى:﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ ﴾: أي أن الكفار لا يزالون مستمرين في قتالكم، فمنذ أن بدأ الإسلام والمسلمون والكفار والمنافقين في صراع دائم لا ينقطع، ومستمر لا يفتر، ويقاتلون المسلمين بالسلاح إن استطاعوا، او بالغزو الأخلاقي، أو بالغزو الفكري -بالانحراف-، كما قال تعالى:﴿ وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ…﴾،
ولكن لهؤلاء الكفار أخوان وهم المنافقين، قال تعالى:﴿ ۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، فالمنافقون هم في الظاهر معنا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، وإن حصل غزو للمسلمين غزو معهم، ولكن قلوبهم مع اليهود والنصارى وأعداء الدين، وهؤلاء المنافقين لم يظهروا حتى خرج الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة، وكان للمسلمين شوكة ومنعة وقوة ،
احتاج هؤلاء المنافقون لإطان الشر وإظهار الخير ،وتظهر دسائهم وحقدهم عند وجود الفرصة لهم
كما قال تعالى:﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾، (أشحة عليكم): أي بخلاء عليكم في الجاه والقوة والمال وفي كل شيء، كما قال الشاعر: ومهما تكن عند امرئ من خليقة …
وإن خالها تخفى على الناس، تُعلمِ.
(خالها): أي أخفاها، قال تعالى: ﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾،
وقد قال تعالى عنهم:﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾
، ومن صفاتهم أنهم إذا رأوا إنساناً أتى بصدقة عظيمة قالوا: هذا مرائي ، وإن أتى بصدقة يسيرة قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فأنزل تعالى فيهم:﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، فإن يسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون )،
قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾.
- قوله تعالى:﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾: هل يمكن أن يرتد جميع المسلمين عن الإسلام؟
والجواب: لا يمكن؛ لأن النبي ﷺ قال:« لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ ».
والارتداد عن الدين: بأن يكون كافرًا -والعياذ بالله-.
وجاء في الحديث عنه ﷺ:« …وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»،.
- قوله تعالى:﴿ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ﴾: يعني أنه من يرتد ثم يرجع فالإسلام يجبّ ما قبله، ويحسن له طيب الأعمال التي كان يفعلها وهو مسلم قبل ردته، فلو أسلم الإنسان وحج ثم ارتد ثم أسلم بعد ذلك فلا يلزمه أن يحج مرة أخرى؛ بدليل قوله تعالى:(فيمت وهو كافر)، فإن ارتد ثم أسلم ولو يمت وهو كافر فنقول له: أسلمت على ما أسلفت من خير، هذا هو الراجح، وهو قول الشافعي رحمه الله.
والكفر، لغة: هو التغطية، وفي الاصطلاح: هو الخروج من الإسلام، والمراد به هنا الكفر الأكبر؛.
والقاعدة، وهي:
١/ قاعدة: الألف والام إذا اقترنت مع الكفر أو الشرك فالمراد هو الأكبر، وإن جاء نكرة فالمراد هو الأصغر.
- موضعها من الآية. :(وهو كافر).
- العلاقة بينهما: فالكافر هو الذي خرج من الإسلام، أما المولود فالأصل أنه ولد على الفطرة وهي الإسلام ولكن كما أخبر ﷺ :« كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه».
- قوله تعالى:﴿ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ ﴾: فيه دليل على أنه من ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فإن عمله يحبط، قال تعالى:﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ﴾، وكما قال الناظم:
ويلزم التكليف كل مدركِ … يعقله من مسلم و مشركِ
لكن الكافر سعيه هباء … وهو مآخذ بجحده وإباء.
- قوله تعالى:﴿ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾: وهذا فيه دليل أن الإنسان إذا مات على الكفر فإنه يكون خالدًا مخلد في النار، والنار لا تفنى، فالجنة تكون لمن أطاع الله ووحده، والنار تكون لمن عصاه، وقد يعذب فيها المسلم بقدر معصيته ثم يكون في الجنة خالداً مخلداً فيها. والله أعلم .
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
كتبها عنه تلميذه : سعود بن صالح الزهراني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق