بسم الله الرحمن الرحيم
(فقه آيات الأحكام 3)
في يوم الأربعاء، الموافق ١٤٤٤/٧/٣ من الهجرة.
——————————————————
قال تعالى: ﴿ لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغوِ في أَيمانِكُم وَلكِن يُؤاخِذُكُم بِما عَقَّدتُمُ الأَيمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطعامُ عَشَرَةِ مَساكينَ مِن أَوسَطِ ما تُطعِمونَ أَهليكُم أَو كِسوَتُهُم أَو تَحريرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَم يَجِد فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيمانِكُم إِذا حَلَفتُم وَاحفَظوا أَيمانَكُم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَشكُرونَ ﴾. [المائدة:٨٩].
——————————————————
- قوله تعالى:﴿ لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ في أَيمانِكُم ﴾: (لا) هنا نافية، (يؤاخذكم الله) من المؤاخذة التي يترتب عليها استحقاق العقاب عند وجود المؤاخذة أو عدم استحقاقه، ولهذا جاء في الحديث :« رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليهِ»،
و(أيمانكم): أي اليمين، وهي الحلف، والقاعدة في الحلف:
1/ قاعدة: يجوز الحلف بأسماء الله وصفاته وأحكامه.
لأن أحكام الله تعالى من كلامه وكلامه من صفاته، وليس الحكم من الخلق بل من الأمر، ولهذا قال تعالى:( ألا له الخلق والأمر).
2/ قاعدة: الاصل أن اسماء الله توقيفية.
- موضعها من الآية. :(أيمانكم).
- العلاقة بينهما: (بأسماء الله) لأن الرسول ﷺ قال:« لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد،» و قال ﷺ :« من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم جواز الحلف بغير الله،.
، (وأحكامه): لأن الحكم من آيات الله الشرعية، وكذا لا يجوز الحلف بالأمانة؛ لأن القسم بغير الله شرك أصغر، والشرك الأصغر اختلف العلماء في تعريفه نوعين:-
- الأول: قالوا : هو كل ما ثبت في تسميتة شركاً في كتاب الله أو سنة رسول الله ﷺ، وأجمع العلماء على أن صاحبه لا يخرج به من الاسلام.
- الثاني: قالوا :هو كل ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر فهو شرك أصغر، مثل زيارة القبور حرمت في أول الاسلام لأنها وسيلة إلى الشرك، حتى استقر التوحيد في قلوب الصحابة ثم قال ﷺ:« كنتُ نهيتُكم عن زيارَةِ القبورِ ألا فزورُوها ، فإِنَّها تُذَكِّرُكم الآخرةَ» لأن المصلحة أرجح من المفسدة حينئذ.
قالوا أيضاً: أن الشرائع السابقة اتفقت على تحريم الشرك الأكبر، ولكن اختلفت في تحريم الشرك الأصغر، فالسجود لغير الله عز وجل احتراما وتقديرًا لا عبادة كان عند الأمم السابقة مشروعاً، كما قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام:﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى العَرشِ وَخَرّوا لَهُ سُجَّدًا وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأويلُ رُؤيايَ مِن قَبلُ قَد جَعَلَها رَبّي حَقًّا وَقَد أَحسَنَ بي إِذ أَخرَجَني مِنَ السِّجنِ وَجاءَ بِكُم مِنَ البَدوِ مِن بَعدِ أَن نَزَغَ الشَّيطانُ بَيني وَبَينَ إِخوَتي… ﴾.
وكذلك الحال في الكفر: فكل ما ثبت في الكتاب والسنة على أنه كفر، وثبت بإجماع العلماء على أن صاحبه لا يخرج به من الإسلام فهو كفر أصغر، قال ﷺ « اثنتانِ في الناسِ هما بهم كفرٌ : الطعنُ في الأنسابِ ، و النِّياحةُ على الميِّتِ»، فهذا كفر أصغر، والنياحة على الميت: هي التسخط والجزع من تلك المصيبة مع رنة في البكاء تشبه رنة الحمام، وليس مجرد البكاء؛ لقوله ﷺ:« إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».
وهناك قاعدة وهي:
2/ قاعدة: ( أل ) إذا اقترنت بالكفر أو الشرك فالأصل أنها للكفر أو الشرك الأكبر، وإذا لم تقترن بها ( أل ) فهي للكفر أو الشرك الأصغر.
- موضعها من الآية. :(سيق).
- العلاقة بينهما: ولكن هل يغفر ذنب صاحب الشرك الأصغر؟
الجواب: العلماء في ذلك على قولين :
الأول: مادام أنه لم يخرج صاحبه من دائرة الاسلام فهو تحت المشيئة.
القول الثاني: أنه ليس تحت المشيئة وإنما يعذب، بقدر شركه الأصغر فإن كان من أهل التوحيد أخرج من النار بعد تمحيصه وأدخل الجنة، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن يَشاءُ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثمًا عَظيمًا ﴾ [النساء: ٤٨].
فقوله (لايغفر) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم فيشمل الشرك الاصغر والاكبر.
فمن مات على التوحيد فهو في الجنة، ومن مات على الشرك الأكبر مع وجود الشروط وانتفاء الموانع فهو في النار خالداً مخلداً فيها.
قوله تعالى:﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغوِ في أَيمانِكُم ﴾: اللغو: أن يتكلم الإنسان بما يجري على لسانه بغير قصد اليمين ، كقوله: لاوالله ونحوها مما يجري على اللسان بدون قصد اليمين فهذا لا كفارة فيه؛ لعدم قصد اليمين .
والأصل في أسماء الله انها توقيفية، كما سبق. والدليل على ذلك قوله ﷺ« ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حزَنٌ فقال اللَّهمَّ إنِّي عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أمتِك ناصيتي بيدِك ماضٍ فيَّ حكمُك عدلٌ فيَّ قضاؤُك أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سمَّيْتَ به نفسَك أو أنزلتَه في كتابِك أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندك..» هذا الشاهد من الحديث. ثم قال ﷺ:« أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزَني وذهابَ همِّي إلَّا أذهب اللهُ عزَّ وجلَّ همَّه ».
فالاصل أنها توقيفة: فلا نسمي المولى عز وجل باسم أو صفة إلا إذا كانت ثابته في كتاب الله أو سنة رسوله ﷺ ، فلو احتمل أنه اسم أو صفة أي بين كونه من أسماء الله تعالى أو صفاته ، فلا نسمي الله به؛ لأن الاصل التوقيف، كقوله ﷺ:« إنَّ اللهَ هو المسعِّرُ القابِضُ الباسطُ الرَّزاقُ، وإنِّي لأرجو أن ألقَى ربِّي وليسَ أحدٌ منكُم يطلبُني بمظلِمةٍ في دمٍ ولا مالٍ». فاسم المسعر القابض الباسط يحتمل أنه اسم او فعل، فلا نسمي به، إلا إن ترجح بدليل أو قرينة ، وكذلك قوله ﷺ:« لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فإنَّ اللَّهَ هو الدَّهْرُ».
- قوله تعالى:﴿ وَلكِن يُؤاخِذُكُم بِما عَقَّدتُمُ الأَيمانَ﴾ : تنقسم اليمين إلى ثلاثة أقسام:
1. يمين اللغو: هي التي تجري على اللسان بدون قصد الحلف.
2. اليمين المنعقدة: هي اليمين التي ينعقد عليها القلب قصدًا، وهي التي تكون في المستقبل أن يفعل أو لا يفعل.
3. اليمين الغموس: أن يحلف على أمر ماضٍ عالمًا متعمدً كاذباً، وبعض أهل العلم يشترط فيها أن يقتطع بها مال مسلم، وهذا بالاجماع، وهي أشد من كونه يحلف على امر ماض عالما متعمدا.
- قوله تعالى:﴿ فَكَفّارَتُهُ إِطعامُ عَشَرَةِ مَساكينَ ﴾ : التكفير من الكفر وهو التغطية، والمراد به أن يزول الذنب عن الحالف بفعل أحد هذه الثلاثة.
الاطعام يختلف حاله، وفيه احتمالان:
الاحتمال الاول: فيه قاعدة وهي:
3/ قاعدة: المطلق يصح على أقل ما يتناوله اللفظ.
- موضعها من الآية. :(إطعام ).
- العلاقة بينهما: فكل ما سمي إطعام فهو مجزئ.
والاحتمال الثاني: فيه قاعدة وهي:
4/ قاعدة: مالم يحدد في الشرع فالمرجع في تحديده العرف.
- موضعها من الآية. :(سبق).
- العلاقة بينهما: وهو الاقرب؛ لأن الله تعالى قيده بقوله (من أوسط ما تطعمون أهليكم). وفي عرفنا أن وجبة الغداء والعشاء هي الأعم الاغلب فنرجح بينها.
ولا يجزيء اعطاء الفقير قيمة الطعام بدل الأكل وهو قول الجمهور ، خلافاً للحنفية، لأن الله نص على الطعام في الاية، والقاعدة في ذلك:
5/ قاعدة: لا يجوز تعليق الحكم على غير الوصف الشرعي
- موضعها من الآية. :(اطعام).
- العلاقة بينهما: فنقول أن هذا نص، فلا يحتمل إلا معنى واحد، وهو الاطعام.
- قوله تعالى:﴿ فَكَفّارَتُهُ إِطعامُ عَشَرَةِ مَساكينَ ﴾ : اختلف العلماء هل المراد عشرة اشخاص، او ما يكفي عشرة؟
فمن أخذ بالظاهر قال عشرة، ومن أخذ بالمعنى قال ما يكفي عشرة، كأن يطعم نفس الاشخاص بما يكفي العشرة من الطعام .
والقاعدة في ذلك
6/ قاعدة: إذا تعارض اللفظ والمعنى قدم المعنى إذا ظهر، وإن لم يظهر فاتباع اللفظ أولى.
- موضعها من الآية. :(عشرة مساكين).
- العلاقة بينهما: والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :« بيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ: ما لَكَ؟ قَالَ: وقَعْتُ علَى امْرَأَتي وأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا، فَقَالَ: فَهلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبيْنَا نَحْنُ علَى ذلكَ أُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - والعَرَقُ المِكْتَلُ - قَالَ: أيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أنَا، قَالَ: خُذْهَا، فَتَصَدَّقْ به فَقَالَ الرَّجُلُ: أعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ ما بيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ - أهْلُ بَيْتٍ أفْقَرُ مِن أهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أطْعِمْهُ أهْلَكَ.» فهذا دليل أن المراد ما يكفي هذا العدد وليس ذات العدد.
- قوله تعالى:﴿ أَو كِسوَتُهُم ﴾ الكسوة تختلف باختلاف العرف، لأن مالم يحدد في الشرع فالمرجع في تحديده العرف، وقد تكون الكسوة اكثر قيمة من الاطعام، ولذك جعل الله الخيار.
- قوله تعالى:﴿ أَو تَحريرُ رَقَبَةٍ ﴾: اي عتقها، ولا يدخل في ذلك من عتق رقبة من وجب عليه القصاص لقتل عمد، فالمراد عتق رقبة العبد وتحريرها من العبودية.
ويشترط فيها ان تكون رقبة مؤمنة لقوله تعالى : ﴿وَما كانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنًا إِلّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَأً فَتَحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهلِهِ إِلّا أَن يَصَّدَّقوا فَإِن كانَ مِن قَومٍ عَدُوٍّ لَكُم وَهُوَ مُؤمِنٌ فَتَحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ وَإِن كانَ مِن قَومٍ بَينَكُم وَبَينَهُم ميثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهلِهِ وَتَحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ..﴾ [النساء: ٩٢]، والقاعدة:
7/ قاعدة: إذا اتحد الحكم حمل المطلق على المقيد.
- موضعها من الآية. :(أو تحرير رقبة).
- العلاقة بينهما: ويدل أيضاً أنَّ معاوية رضي الله عنه جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومعه أعجميَّةٌ أو خَرساءُ فقال : يا رسولَ اللهِ ، عليَّ عتقُ رقبةٍ فهل يجزئُ عنِّي هذه فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أين اللهَ فأشارتْ إلى السَّماءِ ، ثمَّ قال لها : من أنا ؟ فأشارَتْ إلى أنَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : اعتِقْها فإنَّها مؤمنةٌ.
- قوله تعالى:﴿ فَمَن لَم يَجِد فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ﴾: وتكون متتابعة؛ لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فَمَن لَم يَجِد فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ متتابعات): وهذه وإن لم تكن متواترة إلا أنه صح سندها ورواها الصحابي على أنها قرآن، وهي ما تسمى بالقراءة الشاذة.
والقراءة المتواترة عند القراء يشترط فيها ثلاثة شروط:
1. أن يصح سندها.
2. أن توافق وجهاً في لغة العرب.
3. ان توافق الرسم العثماني.
والقراءة الشاذة أجمع الصاحبة على أنها لاتقرأ في الصلاة، ولكن معناها صحيح وأنها قرآن، ونؤخذ منها الأحكام الشرعية.
فالقراءة الشاذة: هي ما ختل فيها شرط من شروط القراءة المتواترة، بشرط صحة السند.
فتكون حجة شرعية، وقد رواها الصحابة على انها قرآن وهي كذلك، ولكن اجمع الصحابة على انه لا يقرأ بها في الصلاة.
- قوله تعالى:﴿ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيمانِكُم إِذا حَلَفتُم ﴾: وهي اليمين المنعقدة، أما الغموس فهي اعظم من أن تكفر،
وليس فيها إلا التوبة النصوح .
- قوله تعالى:﴿ وَاحفَظوا أَيمانَكُم ﴾: اي: قللوا ايمانكم، فلا تكثروا من الحلف بالله، ومن حفظ الايمان أنه اذا حلفت تكفر. والله أعلم .
محمد بن سعد الهليل العصيمي.
كتبها عنه تلميذه : سعود بن صالح الزهراني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق