[تحرير قواعد ابن رجب .. القاعدة ٢٩]
قال الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله :
مَن سُومح في مقدار يسير فزاد عليه؛ فهل تنتفي المسامحة في الزيادة وحدَها أو في الجميع؟ وجهان.اهـ.
ومعنى هذه القاعدة : هل الاعتداء في الشيء المأذون فيه يلغيه أم لا؟.
وتحرير هذه القاعدة يكون بإعادتها لجملةٍ من القواعد :
منها : قاعدة : التابع تابع.
ومنها : قاعدة : يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا.
ومنها : قاعدة : يُغتفر في القضاء في المعاوضات ما لا يُغتفر ابتداءً؛
ويدلُّ لهذه القاعدة ما رواه البخاري في صحيحه عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه كان له عبدالله بن حَدردٍ الأسلمي رضي الله عنه مالٌ، فلقيه فلزِمه حتى ارتفعت أصواتُهما، فمرّ بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (يا كعبُ) فأشار بيده كأنه يقول : النصفَ؛ فأخذ نصفَ ما له عليه وترك نصفًا.
ثم ذكر ابن رجب صورًا لهذه القاعدة :
فقال : "منها : الوكيل في البيع مع الإطلاق يملك البيع بثمن المثل وبدونه بما يُتغابَن بمثله عادةً، فإذا باع بما لا يُتغابن بمثله عادة؛ فهل يضمن بقيةَ ثمن المثل كلِّه أو القدر الزائد عما يتغابن به عادة؟ على وجهين."
والراجح في هذه الصورة على ماتقرر من تحرير القاعدة : أنه يضمن القدر الزائد فقط؛ مثال ذلك : أنه لو قام وكيل فباع سلعةَ موكِّله بمئة ريال، وهي تساوي في السوق خمسمئة ريال إلى ستمئة ريال مترواحةً بين هاتين القيمتين، فإنه يضمن في الزائد ويضمن في أقله، فيضمن إلى خمسمئة ريال لصالح موكله.
ثم قال رحمه الله : "ومنها : لو أكل المضحِّي جميعَ أضحيته؛ فهل يلزمه ضمان ثُلُثها أو ما يقع عليه الاسم؟ على وجهين.
ولو تصدَّق أوّلًا بما يقع عليه الاسم أجزأه؛ لأن الصدقة بالثلث كله مستحب ليس بواجب على المشهور في المذهب".
وهذا الفرع كما ذكر له وجهان؛ فعلى القول بوجوب إخراج الصدقة من الأضحية فيجب عليه حينئذ إخراج أقل ما يقع عليه اسم الصدقة؛ لأن الأمر يفيد الإطلاق، والمطلق يصح على أقل ما يتناوله اللفظ.
وعلى القول باستحباب إخراج الصدقة -وهو الراجح- لا يلزمه ضمان ما أكله، لأن الضحية نفسها مستحبة وما تفرع عن المستحب فهو مستحب، ولأن الفرع أضعف من الأصل فلا يُصار لإيجاب فرعٍ أصلُه مستحب.
ثم قال رحمه الله : "ومنها : لو تعدى الخارج من السبيل موضع العادة؛ فهل يجب غسل الجميع أو القدر المجاوز لموضع العادة ويجزئ الحجر في موضع العادة؟ على وجهين."
والراجح في هذه المسألة والله أعلم : أن الاستجمار يُنزَّل منزلة الاستنجاء مطلقًا سواء في موطن العادة أو ما جاوزها.
ثم قال : "ومنها : لو أدى زكاته إلى واحد، وقلنا : يجب الأداء إلى ثلاثة؛ فهل يضمن الثلثين، أو ما يقع عليه الاسم؟ على وجهين."
وهذا الفرع الذي ذكره دائر بين النظر للفظ والنظر للمعنى المراد، ونظير ذلك قوله تعالى : {لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ}.
فمن نظر إلى اللفظ قال : لابد من عشرة مساكين، أما من نظر إلى المعنى فإنه يقول : المراد مقدار ما يكفي عشرة مساكين؛
والقول الثاني وردت أدلةٌ تقوِّيه، من ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكتُ.. إلى أن قال : والذي بعثك بالحق ما بين لابَتَيها أهل بيت أحوج منا، قال : (اذهب فأطعمه أهلك).
وهذا الفرع يُخرَّج على قاعدة : إذا تعارض اللفظ والمعنى قُدِّم المعنى إذا ظهر، وإن لم يظهر فاتّباع اللفظ أولى.
والله أعلم .
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
كتبها عنه تلميذه : محمد بن شامان العضياني العتيبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق