[تحرير قواعد ابن رجب .. القاعدة ٣١]
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- :
مَن شرع في عبادةٍ تلزمُ بالشروع، ثم فسَدتْ؛ فعليه قضاؤها على الصفة التي أفسدها، سواءً كانت واجبةً في الذمة على تلك الصفة أو دونها.اهـ.
معنى هذه القاعدة إجمالًا :
هل يلزم قضاء العبادة التي شرع فيها إذا فسدت؟
هذا من حيث أصل العبادة ، أما من حيث الصفة ، فالقاعدة : القضاء يحكي الأداء ، فما كان واجباً في الأصل يجب قضاء الواجب بقدر المجزيء منه ، - لأن القاعدة : المطلق يصح على أقل ما يتناوله اللفظ -،
وما كان مستحباً، يستحب قضاؤه على تلك الصفة ولا يجب .
وتحريرُ هذه القاعدة يعود إلى قواعد، منها :
قاعدة : هل الشروع في العبادة يُعَيِّنُها أم لا؟
وقاعدة : هل الشروع في العبادة يلزم منه الإتمام أم لا؟
وهنا تقريرٌ وتأصيلٌ مهمٌّ لابد من ذكره في مثل هذه المسائل؛ ألَا وهو :
أن الأصل في العبادة غير الواجبة عدمُ لزوم إتمامها ولا قضائها، إلا ما دلَّ الدليلُ على لزوم الإتمام والقضاء في تلك العبادات غير الواجبة شرعًا؛ ومن الأدلة على عدم لزوم إتمام العبادات غير الواجبة، ما رواه الترمذي أنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ : (الصّائِمُ المُتَطَوِّعُ أمِينُ نَفْسِهِ، إنْ شاءَ صامَ، وإنْ شاءَ أفْطَرَ)، لكن يُستحبُّ القضاء للعبادات غير الواجبة لقضاء رسول الله ﷺ اعتكافَه، روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّٰهُ عَنْهَا (أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أرادَ أنْ يَعْتَكِفَ، فَلَمّا انْصَرَفَ إلى المَكانِ الَّذِي أرادَ أنْ يَعْتَكِفَ إذا أخْبِيَةٌ خِباءُ عائِشَةَ، وخِباءُ حَفْصَةَ، وخِباءُ زَيْنَبَ، فَقالَ: «ألْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ» ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِن شَوّالٍ).
أما الأعمال غير الواجبة التي يلزم إتمامَها بالشروع فهي الحج والعمرة؛ قال اللَّٰهُ تعالى : (وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله)، ولأن العبدَ إذا شرع في الحج أو العمرة فكأنما نذر على نفسه الحج أو العمرة، قال تعالى : (ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ).
أمّا العبادات الواجبة شرعًا فيجب إتمامُها؛ لقوله تعالى : (ولا تُبطِلوا أعمالَكم).
ثم ذكر الحافظ مسائل مخرَّجةً على هذه القاعدة، فقال :
ويتخرج على ذلك مسائل :
منها : إذا صلى المسافر خلفَ مقيم وفسدت صلاتُه؛ فإنه يجب عليه قضاؤها تامة.
وهذا على المذهب، ولوقيل : إذا فسدت فوجودها كعدمها ، فيجب عليه قضاء ما وجب عليه وهو فرض الصلاة ، وكونها تامة أو مقصورة ، يرجع إلى وقت الفعل فإذا صلاها وهو مقيم أتم ، وإذا صلاها في حال السفر ولم يكن خلف مقيم جاز له القصر لكان هذا القول هو الأقوى والأرجح .
ومنها : إذا أحرم من بلده ثم أفسد نسكه بجماع؛ وجبَ قضاؤه والإحرام من موضع إحرامه أوَّلًا، نصَّ عليه أحمد.
بخلاف ما إذا أحصر في نسكه ذاك ثم قضاه؛ فإنه لا يلزمه الإحرام إلا من الميقات، نصَّ عليه أيضًا؛ لأن المحصر فيه لم يلزمه إتمامه.اهـ.
في ما ذكره من مسألة الإحرام من البلد عند إفساد النسك قولٌ آخر وهو : أن الإحرام وسيلةً وليس مرادًا لذاته، والحج هو الواجب عليه، وأما كونه أحرم من مكانٍ ما فهذا لا يلزمه قضاؤه، لأن الواجبَ عليه إحرامُه إذا مرَّ الميقات، وقد قال ﷺ : ( أجرك على قدر نفقتكِ أو نصبكِ) وهذا في العبادة التي لا تتأتى إلا بهذا الأمر، أما إذا كان يمكن فعل العبادة بطريق أسهل فتُرك وأُتِيَ الأصعب فهذا من التنطع، وفي الحديث : (هلك المتنطعون).
قال الحافظ ابن رجب :
ومنها : إذا عيَّن عمَّا في ذمته من الهدي أو الأضحية ما هو أزيد صفةً من الواحب، ثم تلف، فإن كان تلفه بتفريطه؛ فعليه إبداله بمثله، وإن كان بغير تفريطه؛ ففيه وجهان حكاهما القاضي في (شرح المذهب).
وجزم صاحب (المغني) : بأنه لا يلزمه أكثر مما كان في ذمته؛ لأن الزيادة وجبت بتعيينه، وقد تلفت بغير تفريط فسقطت؛ كما لو عين هديًا تطوّعًا ثم تلف.اهـ.
والظاهر : أنها إذا تلفت بغير تعد منه ولا تفريط، فلا ضمان عليه ، ولا تلزمه الإعادة .
والقاعدة : من فعل ما أمر به بحسب استطاعته فلا إعادة عليه.
والقاعدة : كل من لم يفعل ما لا يجوز ، ولم يترك ما وجب ، فلا ضمان عليه.
وما كان بتعد منه أو تفريط، فإنه يلزمه إعادة ما وجب عليه .
وهذا الفرع يتضح بالتفصيل الآتي :
ما تعين بالتعيين لا يجوز تبديله بلا عذر بمثله أو بما هو دونه، ويصح تبديله بما هو أفضل منه؛ أما إن كان لعذر فيصح تبديله بمثله وكذلك يصح الاقتصار بما أُمر به، أما إن لم يعين شيئًا فلا يلزمه سوى المأمور به.
قال الحافظ ابن رجب :
ومنها : لو نذر اعتكافًا في شهر رمضان ثم أفسده؛ فهل يلزمه قضاؤه في مثل تلك الأيام؟ على وجهين.
وظاهرُ كلام أحمد لزومُه، وهو اختيار ابن أبي موسى؛ لأنَّ في الاعتكاف في هذا الزمن فضيلةً لا توجد في غيره؛ فلا يجزئ القضاء في غيره، كما لو نذر الاعتكاف في المسجد الحرام ثم أفسده؛ فإنه يتعين القضاء فيه، ولأنَّ نذر اعتكافه يشتمل على نذر اعتكاف ليلة القدر فتعيَّن؛ لأن غيرها لا يساويها.
وعلى هذا فنقول : لو نذر اعتكاف عشرة أيام فشرع في اعتكافها في أول العشر الأواخر ثم أفسده؛ لزمه قضاؤه في العشر من قابل؛ لأن اعتكاف العشر لزمه بالشروع عن نذره، فإذا أفسده لزمه قضاؤه على صفة ما أفسده.اهـ.
وهنا تقرير مهم وضابط مهم يضبط أمثال هذه الفروع، ألا وهو :
من نذر شيئًا أفضل فلا يجوز له الإتيان بما هو أدنى منه.
ولا يلزم قضاءُ ما أفسده على الصفة التي أفسدها إلا باجتماع ثلاثة أمور :
أولها : أن يكون العمل لازمًا.
ثانيها : أن يتعيَّن بالتعيين.
ثالثها : أن لا يأتي بالأدنى في مقابل فساد الأفضل، لأن الأفضل إذا تعيَّنَ لم يجزئ الأدنى مكانَه.
والله أعلم .
محمد بن سعد الهليل العصيمي.
كتبها عنه تلميذه : محمد شامان العضياني العتيبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق