يجوز مس القرآن من غير طهارة .
قاعدة : فرق بين اللفظ الذي يحتمل معان متعددة بأوضاع متعددة ، وبين اللفظ الذي يحتمل معانٍ متعددة بوضع واحد .
فمثلاً العين الباصرة : عام للعين الكبيرة والصغيرة، والصحيحة والمعيببة، والتي بها عمش ، والتي لا عمش بها. فلفظ العين - الباصرة - لفظها يحتمل معان متعددة بوضع واحد فيكون شاملاً لما سبق .
وأما العين بأوضاع متعددة ، فهو إطلاق العين على جميع ما يسمى عين وإن اختلف معناه، حيث إن العين ، يراد به العين الباصرة، والنقد، والجاسوس ، ونبع الماء، فلا يكون عاماً فيها. وهذا ما يسمى بالمشترك : ما اتحد لفظه، وتعددت معانيه، وهو لا يفيد العموم على رأي الجمهور خلافاً للشافعي، وبعض الحنابلة.
فالمشترك بالنسبة لمعانيه قد وضع لها بأوضاع متعددة: فلا يفيد العموم، حيث لوحظ فيه شمولية المسميات المختلفة باعتبار اختلافها لا باعتبار معنى - معين - يشملها، فلا يجوز أن يراد به جميع معانيه في وقت واحد .
إذ إن العام : اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، دفعة بلا حصر من اللفظ. .
فالعام بالنسبة إلى معانيه قد وضع وضعاً واحداً. والمشترك بالنسبة إلى معانيه المختلفة قد وضع لها بأوضاع متعددة .
والأصل استعمال اللفظ على معنى واحد، لا على معانٍ متعددة.
ومن التطبيقات على القاعدة :
ما رواه مالك مرسلاً، ووصله النسائي وابن حبان عن عبدالله بن أبي بكر- رضي الله عنه - أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم ( أن لا يمس القرآن إلا طاهر ).
والحديث معلول فمن وصله قال فيه سليمان بن داود، أخطأ فيه الحكم بن موسى ، بل هو سليمان بن أرقم ، وهو متروك الحديث، كما حكاه أبو داود ، وابن أبي حاتم عن أبيه، وغيرهما.
وما روي من طرق أخرى مسندة لا يفرح بها لكونها من رواية متروك، أو مجهول ،أو ضعيف شديد الضعف .
والصحيح المرسل - والمرسل من أقسام الحديث الضعيف، وهو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره. فقد جاء المحفوظ - المرسل - عن الإمام الزهري تارة، وتارة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وتارة عن محمد بن عمرو بن حزم ، وتارة عن عبدالله بن أبي بكر، وكلهم من التابعين .
وبهذا يتبين ضعف سند هذا الحديث .
وأما المتن ( إلا طاهر ) الطاهر مشترك بأوضاع متعددة لا بوضع واحد .
حيث يطلق على من ليس بنجس، ويطلق على من لم يكن محدثاً حدثاً أكبر، ويطلق على من لم يكن محدثاً حدثاً أصغر، ويطلق على من لم يكن مسلماً - المشرك - .
ولما كان مشتركاً كان لا بد من حمله على أحد معانيه بدليل أو قرينة ، وهنا يمكن حمله على أحد معانية ، وهو المعنى الأخير
الطهارة المعنوية التي ضدها المشرك النجس ، لما روى الشيخان عن أبي هريرة أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فحاص عنه، فلقيه مرة أخرى ، فقال له صلى الله عليه وسلم : ما منعك يا أبا هريرة قال : ( كنت جنباً) أو قال ( كنت نجساً )، فقال : ( إن المؤمن لا ينجس )
، ولقوله صلى الله عليه وسلم ( لا يسافر بالقرإن إلى أرض العدو ، فإني لا آمن أن يناله العدو). ولأن هذا الكتاب أرسل إلى عامل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم على نجران، وكان بها نصارى ، ولأن المؤمن لا يوصف بالنجاسة ولو كان عليه جنابة، ولأن هناك فرق بين من لم يكن متطهراً- وهو من لم يفعل الطهارة - وبين من لم يكن طاهراً - وهو المشرك - ، ولهذه الأدلة والقرائن حملنا المشترك على أحد معانيه، ولا يصح حملها على جميع معانيه كما سبق، وذلك على فرض صحة الحديث.
وأما الاستدلال على وجوب عدم مس المصحف إلا بعد التطهر بقوله تعالى : ( وإنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين )
فالجواب : ( يمسه ) الضمير عائد إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، والمطهرون: الملائكة.
ولأن الله تعالى قال ( المطهرون ) ، ولو أراد منع المحدث من مسه لقال : إلا المتطهرون،فالمتطهر: فاعل التطهير، والمطهرون : الذي طهره غيره .
وعلى هذا جمهور المفسرين : أن المراد بالمطهرين، الملائكة.
هذا دليل الجمهور على أن القرآن لا يجوز مسه من المحدث ، وقد تبين ضعف سند الدليل الأول، وعدم استقامة الاستدلال بمتنه، وان المراد بالآية : الملائكة.
ولهذا ذهب الظاهرية إلى جواز مس المصحف بلا طهارة بقاء على الأصل، وهذا هو الأقرب في نظري والعلم عند الله تعالى، وليس في المسألة إجماع، والظاهرية لا ينعقد الإجماع بدونهم على القول الراجح عند الأصوليين، والله تعالى أعلم .
كتبه / محمد بن سعد العصيمي / كلية الشريعة/ جامعة ام القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق