حكم تمني الموت والدعاء به على النفس أو الغير من المسلمين:
- تمني الموت إذا كان على سبيل التسخط على قضاء الله وقدره، أو الجزع مما أصابه، يحرم؛ لحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي).
- وإذا كان تمني الموت أو الدعاء به على النفس لمبرر شرعي: كالشوق إلى الله تعالى ، أو الشهادة في سبيله، أو سلامة دينه من الفتن، فهذا مشروع، وقد يكون مستحباً، - وستأتي الأدلة الدالة على ذلك-.
- وإذا كان تمني الموت، أو الدعاء به على النفس من غير تسخط وتجزع، ولا مبرر له شرعاً ، فيكون حينئذ مكروهاً -أي تمني الموت مطلقاً بلا سبب -.
لعموم حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ, وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا) رواه مسلم .
- فجمع بين النهي عن تمني الموت، والنهي عن الدعاء به على النفس - .
وعند البخاري بلفظ : ( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ).
- والقاعدة: أحد أفراد العام لا يخصص به إذا كان موافقاً له في الحكم.
(لا يتمنين أحدكم الموت) (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)
وإنما قلنا بالكراهة لا بالتحريم للعلة الواردة في الحديث (إما محسناً فلعله يزاد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب) وهذا تعليل يفيد الاستحباب لا الوجوب، بخلاف تمنيه أو الدعاء للتسخط والتجزع عند المصائب والكوارث، فهذا ينافي الصبر الواجب عند وقوعها.
قَالَ النَّوَوِيّ: فِي الْحَدِيث التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ فَاقَة، أَوْ مِحْنَة بِعَدُوٍّ، وَنَحْوه مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا, فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا أَوْ فِتْنَة فِي دِينه فَلا كَرَاهَة فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث, وَقَدْ فَعَلَهُ خَلَائِق مِنْ السَّلَف.
- والنهي عن تمني الموت إنما هو إذا كان بسبب ما يحصل للمرء من ضرر في أمور دنياه، فإنّ تمني الموت حينئذ دليل على الجزع مما أصابه:
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ, فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) متفق عليه.
وَقَوْله (مِنْ ضُرّ أَصَابَهُ) يعني بذلك الضرر الدنيوي كالمرض والابتلاء في المال والأولاد وما أشبه ذلك,
وأما إذا خاف ضرراً في دينه كالفتنة فإنه لا حرج من تمني الموت حينئذٍ كما سيأتي.
- وقد دل على مشروعية تمني الموت في هذه الحال كثير من الأحاديث، منها:
عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ) متفق عليه, فقد تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتل في سبيل الله، وما ذاك إلا لعظم فضل الشهادة.
وروى مسلم : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ).
- هذا النهي عن تمني الموت والدعاء به محمول عند أكثر العلماء على الضرر بالدنيا كالفقر والمرض وغيره، أما إذا تضرر الإنسان في دينه وخشي على نفسه الفتنة فلا بأس عليه أن يتمنى الموت وأن يدعو به ليسلم دينه ويموت على الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانك).
- وقد ذهب: الحَنفيَّة ، والمالِكيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلَة -في المعتمد من مذاهبهم - إلى: كراهة تمني الموت لضر نزل به، أما إذا كان لخوف فتنة في الدين فلا يكره.
قولُ مريم: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيا).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مريمَ عليها السلامُ تمنَّتِ الموتَ من جهةِ الدِّينِ؛ لوجهين:
الأوَّل: أنَّها خافَتْ أن يُظَنَّ بها الشرُّ في دِينِها وتُعيَّرَ؛ فيفتِنَها ذلك.
الثَّاني: لئلَّا يَقَعَ قَوْمٌ بِسَبَبِها في البُهتانِ، والنِّسبَةِ إلى الزِّنَا .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا يتمَنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ مِنْ ضُرٍّ أصابَه، فإن كان لا بُدَّ فاعِلًا، فليقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي ما كانَتِ الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّنِي إذا كانت الوَفاةُ خيرًا لي))
.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قولَه: ((لا يتمَنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ مِنْ ضُرٍّ أصابَه)) فيه النهيُ عن تمنِّي الموتِ للضَّرَرِ النَّازِل.
وقوله: ((وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي)) فيه إباحةُ تمنِّي الموتِ؛ خوفًا من أن يُفْتَنَ في دِينِه.
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لن يُدخِلَ أحدًا عَمَلُه الجَنَّةَ، قالوا: ولا أنت يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، ولا أنا، إلَّا أن يتغَمَّدَنيَ اللهُ بفضلٍ ورحمةٍ، سَدِّدوا وقارِبُوا، ولا يتمنَيَنَّ أحدُكم الموتَ: إمَّا مُحسِنًا؛ فلعلَّه أن يزدادَ خيرًا، وإمَّا مُسيئًا؛ فلعَلَّه أن يَسْتَعْتِبَ. ) .
وعنِ معاذِ بن جبل رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أتاني الليلةَ رَبِّي تبارك وتعالى في أحسَنِ صورةٍ.... وقال: يا محمَّدُ إذا صَلَّيْتَ فَقُل: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ فِعْلَ الخيراتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأن تَغْفِرَ لي وترحَمَني، وإذا أردْتَ فتنةً في قومٍ فتَوَفَّني غيرَ مَفتونٍ)).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قولَه: ((وإذا أردْتَ فتنةً في قومٍ فتَوَفَّني غيرَ مَفتونٍ))فيه أنَّه إذا خَشِيَ أن يُصابَ فى دِينِه فله أن يدعوَ بالمَوْتِ قبل أن يُصابَ بذلِك
.
وعن سعيدِ بنِ المُسَيِّب، قال: (لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه مِن مِنًى، أناخَ بالأَبْطَحِ، ثم كوَّمَ كَوْمَةً بَطحاءَ. ، ثم طَرَحَ عليها رداءَه واستلقى، ثم مدَّ يَدَه إلى السَّماءِ، فقال: اللَّهُمَّ كَبِرَت سِنِّي، وضَعُفَتْ قُوَّتِي، وانتشَرَتْ رَعِيَّتي، فاقبِضْني إليك غيرَ مُضيِّعٍ ولا مُفرِّطٍ... قال مالِكٌ: قال يحيى بنُ سعيدٍ: قال سعيدُ بنُ المسيِّب: فما انسَلَخَ ذو الحِجَّةِ حتى قُتِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه).
- والحالات التي يجوز فيها تمني الموت ـكما قال العلماءـ هي خوف الفتنة في الدين، وعند حضور أسباب الشهادة، ومَن وثق بعمله شوقًا إلى لقاء الله عز وجل، ففي مثل هذه الحالات يجوز تمني الموت، قال ابن رجب في لطائف المعارف عند ذكر الحالات التي يجوز فيها تمني الموت: ومنها: تمنيه خوف الفتنة في الدين، فيجوز حينئذ، وقد تمناه ودعا به خشية فتنة الدين خلق من الصحابة، وأئمة الإسلام، وفي حديث المنام: وإذا أردت بقوم فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون.
ومنها: تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتنامًا لحضورها، فيجوز ذلك أيضًا، وسؤال الصحابة الشهادة، وتعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور، وكذلك سؤال معاذ لنفسه وأهل بيته الطاعون لما وقع بالشام.
ومنها: تمني الموت لمن وثق بعمله شوقًا إلى لقاء الله عز وجل، فهذا يجوز أيضًا، وقد فعله كثير من السلف، قال أبو الدرداء: أحب الموت اشتياقًا إلى ربي ـ وقال أبو عنبسة الخولاني: كان من قبلكم لقاء الله أحب إليه من الشهد.
- أما مجرد تمني الموت ثقة بعمله واعتماداً عليه من دون الشوق إلى لقاء الله عز وجل ورحمته، فلا ينبغي؛ لأنه قد يؤدي إلى العجب بالعمل، والركون إليه، وقد حذر أهل العلم من الثقة بالعمل، والاعتماد عليه، والالتفات إليه، قال ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين: ينبغي ترك الإعجاب بالعمل، والالتفات والركون إليه، وأن يعول على كرم اللَّه تعالى، ورحمته، والاعتراف بمنَّته، كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: لن ينجي أحدًا منكم عملُه.. والحديث متفق عليه، وقال ابن هبيرة في الإفصاح: وفيه التحذير من الإعجاب بالعمل، كما هو أيضًا تحذير من القنوط من الرحمة.
وأما ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعًا: (لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ ـ فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا). فهو حديث صحيح، دون قوله: إلا أن يكون قد وثق بعمله ـ فإنها زيادة منكرة.
فلا ينبغي للمسلم تمني الموت لمجرد الثقة بعمله؛ لما ينطوي عليه ذلك من المحاذير، كالإعجاب بالعمل، والاعتماد عليه، وإنما يشرع عند خوف الفتنة في الدين، وعند حضور أسباب الشهادة، والشوق إلى لقاء الله عز وجل وما أعد لعباده المتقين .
- وأما الدعاء على الغير بالموت، فإذا كان ذلك لسبب يقتضيه بلا تجاوز عليه في الدعاء، كان ذلك جائزاً ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)
وإن كان ذلك لمبرر شرعي ، كتخليص الأمة من شره، كان ذلك مشروعاً . والله تعالى أعلم.
أبو نجم / محمد بن سعد العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق