حكم المبيت بمزدلفة وقدره:
----
مقدار المبيت عند المالكية في المزدلفة، بمقدار حط الرحل أو صلاة العشاءين وأكل شيء يسير أوشرب، وعند الشافعية والحنابلة لحظة بعد منتصف الليل ولو لم يحضر في النصف الأول منه، وعند الحنفية ساعة ولو لطيفة بعد طلوع الفجر، ولا يجب شيء من الليل أصلاً، وهو الأقرب لمبيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلوع الفجر، ووقوفه بعد الفجر بالمزدلفة، ويرخص للضعفة والظعن ومن كان معهم له حكمهم، كما في حديث عائشة في الصحيحين: أن سودة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله، وكانت ثبطة -يعني ثقيلة- فأذن لها).
ولحديث ابن عباس قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل -أو قال- في الضعفة من أهله- من جمع بليل).
ويؤيد ذلك حديث عروة بن مضرس مرفوعاً: (من شهد صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه) أي: قارب الانتهاء من التحلل الأول، نظير قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن...) أي: قاربن البلوغ، وما جاور الشيء ياخذ حكمه أحياناً، وهذا أسلوب من أساليب لغة العرب.
-والتعبير عن تمام الشيء بالإتيان بركنه الأعظم والأهم والأشد، نظير قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الربا في النسيئة)-.
فيلزم من الوقوف بمزدلفة المبيت قبلها إلا إذا كان ممن رخص لهم الشرع، ولهذا ذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب المبيت بمزدلفة، لما سبق من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، وحديث أسماء لما نفرت لما غاب القمر، وقالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن).
والإذن غالباً لا يكون إلا من ترك واجب، أو فعل محظور.
والقاعدة: اللفظ يحمل على الأعم الأغلب، لا على القليل والنادر.
وذلك لأن الإذن يمكن أن يكون في فعل المسنون أو المباح أو تركهما.
ويؤيد الوجوب: حديث عروة بن مضرس السابق: (وكان قد شهدنا صلاتنا هذه...) وشهود الصلاة يلزم منه المبيت، لأن من أذن له بالدفع في مزدلفة من الليل من الضعفة لم يؤمروا بالرجوع للوقوف بعد الفجر بالمزدلفة.
وأما الضعفة ومن في حكمهم ممن كان مرافقاً لهم، فإذا مكثوا في منى أدنى المكث أجزأهم ذلك، والأفضل أن يمكثوا معظم الليل لحديث أسماء السابق التي لم تدفع إلا بعد غياب القمر في تلك الليلة، ولا يغيب القمر في تلك الليلة إلا في الثلث الأخيرمن الليل، ولكنه لا يخصص حديث ابن عباس: (بعثني مع الضعفة من جمعٍ بليلٍ).
لأن القاعدة في ذلك: أحد أفراد العام لا يخصص به إذا كان موافقاً له في الحكم.
وأجزأ أقل المسمى من الليل للضعفة -كما هو قول المالكية- لأن القاعدة: المطلق يصح على أقل ما يتناوله اللفظ.
وحديث عروة بن مضررس لا يدل على ركنية الوقوف بنزدلفة بعد الفجر، مع أنه قرن ذلك بالوقوف بعرفة، إذ لو كان ركناً لما أذن صلى الله عليه وسلم للضعفة والظعن بالدفع من مزدلفة قبل الوقوف بها بعد الفجر.
والظعن: المرأة في الهودج، ثم أطلق على المرأة مطلقاً.
فإن قيل: دلالة الاقتران في حديث عروة بن مضرس: (من شهد صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد وقف بعرفة...) فقرن بين مزدلفة وعرفة، ألا يدل على ركنية الوقوف بعد الفجر بمزدلفة.
فالجواب: أن دلالة الإقتران إذا عورضت بما هو أقوى منها من الأدلة، فلا عبرة بها.
وأيضاً: دلالة الإقتران من الأصوليين من ضَعَّفَها مطلقاً، ومنهم من قواها مطلقاً.
والأصح: أنها تضعف تارة، وتقوى أخرى، ما لم ينازعها ما هو أقوى منها.
وبعد هذا العرض يتبين أن المبيت بمزدلفة واجب، وكذا الوقوف بها بعد الفجر إلا أنه يرخص للضعفاء ومن في حكمهم ، وليس المبيت بسنة كما قاله الحنفية، وإنما الواجب عندهم الوقوف بعد الفجر، وليس المبيت بركن كما هو مروي عن علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري، وإنما الراجح أن المبيت بمزدلفة للحاج واجب لما تقدم، وهو قول الجمهور.
والله تعالى أعلم.
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة ام القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق