حكم المال من الكسب الحرام بعد التوبة:
قاعدة: كل من تاب من المحرم لكسبه -لا لظلم المخلوق- بعد قبضه، فهو له حلال.
-----
المال المكتسب من الحرام، إما أن يكون الحق للمخلوق، فإذا كان الأمر كذلك، فلا يخلو ذلك المال إما أن يأخذه بغير رضاء صاحبه والمال في ذاته حلالاً، كالمغصوب والمسروق، ونحوهما، فإذا تاب وجب رد هذا المال إلى صاحبه، ولا يحل له بالتوبة.
وإما أن يكون قد أخذ برضاء صاحبه واستوفى عوضه المحرم، فلا يرده إليه، كالبغي إذا تابت، فلا يجب رد المال الذي دفع إليها من قبل الزاني، لأن رد المال إلى الزاني في تلك الحال، يجمع له بين العوض والمعوض، فلا يجب على البغي والحالة تلك أن ترد ما كسبت من البغاء إذا تابت.
وإذا كان برضاه ولم يستوفي عوضه المحرم، رد المال إلى صاحبه والحالة تلك، كمن أخذ نقوداً من شخص ليوفر له خمراً، ثم تاب البائع قبل تقبيضه الخمر، رد النقود إلى صاحبها.
وأما إذا كان الحق لله تعالى، بحيث لا يملك المخلوق التنازل عنه، فيفرق بين ما قبضه، فإذا تاب لا يجب عليه أن يتخلص منه، لقوله تعالى: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف...) وقال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين).
ولحديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
وأما ما لم يقبضه فلا يحل له قبضه بعد التوبة.
فمثلاً: من وقع في الربا ثم تاب، ما قبضه حل له بالتوبة، وما لم يقبضه فهو عليه حرام.
هذا وللعلماء -رحمهم الله تعالى- في هذه المسألة ثلاث مسالك:
الأول: من يرى أن هذا المال أخذ في مقابل عوض خبيث، فيجب أن يخرجه بنية التخلص لا بنية الصدقة، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
ولأنه مال سحت فلا يكون طيباً أخذه، وفي الحديث: (من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به). ولأنه كسب خبيث فلا ينقلب طيباً. ويمكن أن ينسب هذا القول للجمهور.
والجواب: قبل التوبة خبيث، وبعد التوبة إذا لم يتعلق بأخذ حق الآدمي ظلماً طيباً، كالسيئة قبل التوبة إثم، وبعد التوبة تنقلب بفضل الله تعالى حسنة (ويبدل الله سئياتهم حسنات).
والمسلك الثاني: من يفرق بين من أخذه بجهل أو تأويل يظنه حلالاً فتبين له حراماً، فتكفي فيه التوبة، وبين من أخذه وهو يعلم بتحريمه، فهذا يجب عليه أن يخرجه بنية التخلص. وهذا أحد الرأيين لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "وأما الذي لا ريب فيه عندنا فهو: ما قبضه بتأويل أو جهل، فهنا له ما سلف، بلا ريب، كما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار".
والجواب: أن الله تعالى لم يشترط في التوبة من الربا، التخلص من أرباحه، (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) سواء كان عالماً أو جاهلاً، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيما﴾.
قال ابن القيم - رحمه الله-: «الجهل نوعان: عدم العلم بالحقِّ النَّافع، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه، فكلاهما جهل لغةً وعرفًا وشرعًا وحقيقةً».
والمسلك الثالث: وهو التفريق بين ما قبض وما لم يقبض، فإذا تاب فإن ما قبضه من الكسب الحرام يكون له حلالاً، وما لم يقبضه لا يجوز أخذه. وهذا هو الرأي الثاني لشيخ الإسلام.
والله سبحانه يقول: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)، ولم يقل فمن أسلم، ولا من تبين له التحريم، بل قال: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى)، والموعظة تكون لمن علم التحريم أعظم مما تكون لمن لم يعلمه، قال الله تعالى: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)".
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "اللهُ تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة، وإنما أمر برد الربا الذي لم يقبض، ولأنه قُبض برضى مالكه فلا يشبه المغصوب.
ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقَّت".
وهذا الذي يترجح في نظري والعلم عند الله تعالى، وبناء عليه تكون القاعدة:
كل من تاب من محرم لكسبه -لا لظلم من أخذ منه- بعد قبضه، فهو له حلال.
* فإن قيل: يشكل على ذلك حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء له بتمر جنيب -جيد- فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا والله يارسول الله، إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: أواه عين الربا ردوه، ردوه، ولكن بع الجمع -التمر الرديء- بالدراهم، واشترِ بالدراهم جنيباً).
فالجواب: أن هذه من البيوع الفاسدة، فإذا أمكن الرد تعين، وإن لم يمكن فعوضه حلال بعد التوبة، ففرق بين البيوع الفاسدة من حيث صحة العقد وعدمه، وبين العوض الذي يمكن رده، والذي لا يمكن رده. وذلك لأن التوبة لا تسقط عنك الواجب الشرعي من رد العقود الفاسدة، أو إيصال الحقوق إلى أصحابها.
والله تعالى أعلم.
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق