حكم من أكره زوجته على إسقاط الدين الذي عليه لها وإن لم تفعل طلقها:
---------
هذه المسألة يتاجذبها أصلان، المعاوضة، كما في حديث سودة لما أسقطت يومها حتى لا يفارقها النبي صلى الله عليه وسلم.
أو الإكراه وذلك أنها لم تسقط مالها عن طيب نفس منها، وفي الحديث: (لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه).
فهل المعتبر في الإكراه هو الضرر، فمتى كان الضرر الواقع عليها أعظم من الضرر الصادر منها فهي معذورة بالإكراه وإن لا فلا.
ولا شك أن فراق زوجها ضرر ويعتبر كسر لها، فخشيت من عدم إسقاط دينها حصول الضرر. ومن هنا اعتبر جمع من الفقهاء في الإكراه حصول الضرر يقيناً أو غلبة للظن.
فإن قيل: الكفر يرخص فيه عند وجود الإكراه: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)، ولا أعظم من ضرر الكفر.
فالجواب: أن العبرة بوجود الضرر على المكلف، وهذا مجرد قول لايقع به الكفر لوجود الإكراه، فالعبرة بالضرر الفعلي على المكلف، أو يقال: إنه مجرد قول لا ينعقد عند وجود الإكراه، فيكون وجوده كعدمه.
فإن قيل هل يرخص بالإكراه بالفعل كما هي الرخصة في القول، وجهان في مذهب أحمد، والظاهر أن بابهما واحد، كمن أكره على السجود للصنم وإلا قتل، فهل يعذر بالإكراه؟.
ففي قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً) دليل على أن الإكراه يقع على القول والفعل، وعلى فرض عدم دليل وجود مشروعية الترخص بفعل الإكراه، فالقياس على القول يقتضيه، والشارع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين مختلفين.
أو المعتبر في تحقق الإكراه والعذر به: هي الوسيلة فإذا كانت مشروعة لم يتحقق الإكراه.
فإذا قال لزوجته: إن لم تسقطِ حقك المالي الذي علي سأطلقك.
فيصح الإسقاط مطلقاً، أو يصح ما بقيت في ذمته -فإن طلق رجعت عليه- أو لا يصح مطلقاً -ثلاث روايات في مذهب أحمد-.
ويؤيد أن ذلك من باب المعاوضة لا الإكراه مع وجود الضرر على الزوجة التي لم تدفع هذا الضرر إلا بإسقاط دينها، قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .
وروى الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لاَ تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ.
وهكذا فسَّرت عائشةُ رضي الله عنها الآيةَ:
ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) قَالَتْ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، لاَ يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا، فَيُرِيدُ طَلاَقَهَا، وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، تَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِى وَلاَ تُطَلِّقْنِى، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِى، فَأَنْتَ فِى حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيَّ، وَالْقِسْمَةِ لِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).
قال ابن كثير رحمه الله: "إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يطلقها: فلها أن تسقط حقها، أو بعضه، من نفقة، أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا)، ثُمَّ قَالَ: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)، أي: من الفراق".
وفي المهذب: (وأما المكره، فإنه ينظر، فإن كان إكراهه بحق كالمُولِي إذا أكرهه الحاكمُ على الطلاق، وقع طلاقه؛ لأنه قول حُمِل عليه بحق، فصح؛ كالحربي إذا أكره على الإسلام، وإن كان بغير حق، لم يصحَّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))، ولأنه قولٌ حُمِل عليه بغير حق، فلم يصح؛ كالمسلم إذا أُكره على كلمة الكفر، ولا يصير مكرَهًا إلا بثلاثة شروط، أحدها: أن يكون المكرِهُ قاهرًا له لا يقدر على دفعه، والثاني: أن يغلب على ظنه أن الذي يخافه من جهته يقع به، والثالث: أن يكون ما يهدِّدُه به مما يلحقه ضررٌ به؛ كالقتل، والقطع، والضرب المبرح، والحبس الطويل، والاستخفاف بمن يغض منه ذلك من ذوي الأقدار؛ لأنه يصير مكرَهًا بذلك).
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله تعالى:
أن الضرر الواقع عليك إذا كان أعظم من الضرر الصادر منك وقع العذر بالإكراه.
ولا يشكل عليه مسألتنا، لأن الإكراه ههنا بحق.
فمن أكره الزوج على الطلاق لكونه لم يطأ زوجته لأكثر من أربعة أشهر بلاعذر مع مطالبة الزوجة بالطلاق إن لم يرجع، أكره الزوج على الطلاق ووقع منه مع إكراهه لكونه إكراهاً بحق.
وكذا من أكره زوجته على ترك يومها أو دينها، فأسقطته سقط -لوجود المعاوضة- لكونه إكراهاً بحق، فالذي جعل له الطلاق هو الشارع حتى ولو تضررت المرأة بذلك الطلاق.
وهي تخير والحالة تلك بين أمرين، تترك الدين، مقابل ترك طلاقها، وكمن باع بيته وهو مكره على بيعه من أجل قضاء دينه، صح بيعه، لكونه باعه بحق مع أن نفسه لم ترغب في بيعه، ونفسه تكره ذلك ولم تطب نفسه ببيعه، ولكنه باعه للحق الذي عليه. فالعبرة ليست بالوسيلة، فقد تكون حلالاً والمكره عليه حراماً، وقد يكون العكس، وقد يكونا حلالين، وقد يكونا محرمين.
ولا فرق في الإكراه الذي يترتب على عدم فعله الضرر، بين حقوق الله تعالى وحقوق المخلوقين.
وعليه: فحصول الضرر إذا كان بحق سواء كان الحق للمكرِه أو المكرّه فلا إشكال في عدم كونه عذراً يرتفع به الحكم الشرعي في عدم الصحة أو البطلان.
وإذا كان الإكراه بغير حق، فالقاعدة: إذا كان الضرر الواقع عليك أعظم من الضرر الصادر منك فأنت معذور، وما لا فلا.
والله تعالى أعلم.
كتبه: محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق