مقدار قيد رمح :
—————-
قيد، بكسر القاف ، أي قدر ، وقيس .
والرمح: عصا طويلة في رأسها سهم، ويقد في الأعم الأغلب من مترين ونصف إلى ثلاثة أمتار .
——-
والمعتبر في زوال وقت النهي صباحاً يحتمل ثلاث احتمالات :
أ - الاحتمال الأول : هو أن ينظر الناظر في الأفق فإذا ارتفعت عن الأفق مسافة رمح ، خرج وقت النهي.
وهو يقدر بربع ساعة إلى عشرين دقيقة .
ب - والاحتمال الثاني : المعتبر ربط قيد الرمح بالظل، فإذا بلغ ظل الرمح مثله ،فهو قيد رمح، وإذا بلغ مثليه: فهو ضعفه .
ج - والاحتمال الثالث : ربط وقيد النهي ببروز الشمس كاملة عن وجه الأرض ، وهو قول عند الشافعية وجمع من أهل العلم .
——
ويؤيد الاحتمال الأول عدة أدلة :
١ - ما رواه أبو داود عن عمرو بن عنبسة السلمي - رضي الله عنه - أنه قال : قلت يارسول الله ، أي الليل أسمع؟ قال : ( جوف الليل الآخر ، فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي الصبح ، ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيس رمح أو رمحين فإنها تطلع بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار ، ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة ).
الشاهد : فترتفع قيس رمح أو رمحين ، أي هذا المقدار في الأفق بعد خروجها وبزوغها وارتفاعها هذا المقدار في عين الناظر بعد خروجها كاملة عن وجه الأرض ، وذكر قيد رمح أو رمحين في عين الناظر من بعيد على وجه التقريب لا التحديد فإننا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب - كما جاء ذلك في الحديث -
فإن قيل : إن هذا يحتمل أن يكون المراد ، قيد رمح أو رمحين ، أي مقدار ظل رمح أو ظل رمحين، وذلك حين تطلع الشمس يكون ظل الشاخص طويلاً، وكلما ترتفع يقل ظل الرمح أو الشاخص أياً كان فإذا كان ظل مثليه فهو أول خروج وقت النهي، وإذا وصل ظله إلى مثله فهذا أفضل صلاة الضحى حين ترمض الفصال في النفود والأرض الصحراوية .
والجواب :
أ - أن الاحتمال الأول ، لا يحتاج إلى إضمار ، فقال: فترتفع قيس رمح ، ولم يقل حتى يكون ظل الشيء كطوله ، فالقول بالاحتمال الثاني ، يحتاج إلى إضمار .
والقاعدة : ما لا يحتاج إلى إضمار أولى مما يحتاج إلى إضمار - وقد سبقت في القواعد -.
ب - ولأن حمل هذا الحديث على الاحتمال الأول ، لا يفرق فيه قيد الرمح عن قيد الرمحين ، فهما متقاربان على الاحتمال الأول ، متباعدان على الاحتمال الثاني.
وذلك لأن المراد هو بروز الشمس عن الأرض بروزاً واضحاً- كما يأتي بيانه في الاحتمال الثالث.
٢ - ولما في صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ، قال : ( ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس ، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب )
والشاهد : أن الوصف الذي علق عليه الحكم : هو الارتفاع عن وجه الأرض ، وقيد بالرمح أو الرمحين من باب تأكيد الارتفاع ، وهو يؤيد الاحتمال الثالث.
وذكر القيد بالرمح أو الرمحين لتحقيق الارتفاع والبروز عن وجه الأرض، وهو يرجح الاحتمال الأول على الثاني، مع أن الارتفاع وقيد الرمح أو الرمحين من باب التقريب لا من باب التقييد وهو يزيد من رجحان الاحتمال الثالث، ويقوي الاحتمال الأول على الثاني.
والبزوغ في اللغة : بزغ : إذا بدا طلوعه، وقيد ذلك بارتفاعها عن وجه الأرض، وبروزها كاملة عن وجه الأرض.
وبروز الشمس كاملة : لا يتنافى مع قيد الرمح أو الرمحين ، لأن القاعدة في ذلك : أحد أفراد العام لا يخصص به إذا كان موافقاً له في الحكم . ويكون المعنى : النهي يستمر إلى ارتفاع الشمس وبروزها ، فلا يكون حاجبها الأسفل غير ظاهر ، والأفضل ارتفاعها إلى قيد رمح أو رمحين .
——-
ويؤيد الاحتمال الثاني : وهو اعتبار ظل الرمح أو الرمحين ، ولا اعتبار بالربح ، وإنما ذكر من باب التمثيل ، وما خرج مخرج التمثيل فلا مفهوم له، وذلك أن يكون ظل كل شيء مثله أو مثليه .
ويدل لذلك ما يلي :
١ - ما رواه مسلم من حديث عمرو بن عنبسه - وذكر قصة إسلامه - ثم قال : فقلت : يا نبي الله ، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة، قال : ( صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل - يبلغ منتهى قصره ويكون في أقصر حدوده - بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصل العصر ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس ، فإنها تغرب بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ).
الشهد :( حتى يستقل الظل بالرمح) فدل على أن المراد ظل الرمح في ارتفاع الشمس قيد رمح .
والجواب : أن هذا حجة عليكم لا لكم، لأنه لو أراده في ارتفاع الشمس لذكره ، كما ذكره عندما يستقل ظل الرمح في الظهيرة، فدل على أنه غير مراد ، وما لا يحتاج إلى إضمار ، أولى مما يحتاج إلى إضمار .
كما أن الأمر لو كان معلقاً بالظل لذكره كما ذكر ظل كل شيء مثله أو مثليه في صلاتي الظهر والعصر .
والقاعدة : لا يجوز فرض العمومات في المضمرات - وقد تقدمت في القواعد -.
٢ - في حديث جبريل في السنن ( فصلى بي العصر حيث كان ظله مثله) ، وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص في الصحيح مرفوعاً :( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ).
فإذا كان ظل الشيء معتبراً في تحديد الوقت في المساء، كما في آخر وقت الظهر ، وكذا إذا كان ظل الشيء مثليه، وهو عند اصفرار الشمس تقريباً، - كما هو الشأن في تحديد نهاية وقت العصر ،فليكن هذا الوقت معتبرا. في تحديد الوقت في الصباح .
والجواب :
أ - إن قياس تحديد وقت النهي عن الصلاة على تحديد وقت صلاة الفريضة ، قياس مع الفارق.
ب - إن تحديد النهي عند طلوع الشمس وعند غروبها : لأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان ، ويسجد لها والحالة تلك الكفار ، وعند قائم الظهيرة : تسجر فيها النار ، وتحديد وقت الفرائض امر تعبدي.
ج - ولأن وقت اصفرار الشمس لفريضة العصر هو انتهاء وقت الفضيلة، وما بعده إلى الغروب هو وقت جواز على الأصح وهو مذهب الشافعية وغيرهم - وقد سبق بيانه في مسألة مستقلة -
د - إن الشارع حدد في الظل في المساء ، ولم يحدده في الصباح، ولو كان مراداً لبينه ، وإنما علق الحكم على وصف آخر، والجمع بين ما فرق الشارع بينهما من أفسد القياس .
٣ - قياس حد الوقت على حد الوقت .
وقد سبق الجواب عنه في الفقرة السابقة .
٤ - الأثر( إن النهار اثنا عشر ساعة )
والجواب : أنه لم يثبت مرفوعاً، وعلى فرض صحته، فإنه لا يدل على تحديد الأوقات .
٥ - أنه قد روي عن علي رضي الله عنه ، أنه لما بلغ ظل الرمح مثله قام فصلى .
والجواب عنه : أن هناك فرق بين صلى في وقت ، وبين من حدد الوقت، ولم يروى عنه التحديد بل الصلاة .
كما أن قول الصحابي ليس بحجة على الأصح وقد بينت ذلك في القواعد .
٦ - أن لكل ساعة عند العرب مسمى خاص، فيكون هناك فرق في المسمى بين ساعة وساعة .
والجواب : على فرض ثبوت ذلك عند العرب، فإن اختلاف الاسم لا يعني اختلاف الحكم.
كما أن العرب اختلفوا في هذه التسميات ولم يتفقوا، ومع ذلك الدلالة الشرعية مقدمة على الدلالة اللغوية عند الاختلاف في الدلالة الشرعية واللغوية .
———
ويؤيد الاحتمال الثالث : وهو تعليق الحكم على ارتفاع الشمس كاملة عن وجه الأرض ، ما يلي :
١ - حديث عمرو بن عنبسة السابق ( ....حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ...)
فجعل القيد في رفع وقت النهي هو الارتفاع .
٢ - حديث عقبة بن عامر السابق (.. حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ..).
٣ - حديث ابن عمر في الصحيحين مرفوعاً:( إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز ، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب )
فعلق الحكم على ارتفاع الحاجب عن وجه الأرض أو دخوله عند الغروب، فبين أن الارتفاع عن قرني الشيطان هو بروزها كاملة عن وجه الأرض، وأن مقدار الرمح أو الرمحين من باب تحقيق انفصالها عن وجه الأرض، وهذا أضبط التحديدات السابقة، وأفضل ان ترتفع هذا القيد من رمح أو رمحين عن وجه الأرض.
ويؤيد هذا :
١ -أن القيد الذي ثبت في الصحيحين اصح وأولى مما ورد في غيرهما عند التعارض.
٢ - وأن تحقيق الارتفاع يكون بارتفاع الشمس عن وجه الارض، وقيد الرمح والرمحين إنما هو من باب تحقيق الارتفاع وتأكيده .
٣ - ولأن التقييد ببدو حاجب الشمس أو غيابه هو المقارب في وقت النهي لقائم الظهيرة، فتكون الأوقات الثلاثة متقاربة التساوي.
٤ - ولأن وقت الارتفاع والتقييد بالرمح أو الرمحين في نظر الناظر للشمس متقارب، فهما كحدين يغني أحدهما عن الإخر، فيكون هذا من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.
والقاعدة عند الراسخين في العلم أنهم يردون المتشابه - الذي يحتمل أكثر من معنى - إلى المحكم الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً.
وبهذا يظهر أن الاحتمال الثاني، وهو التقييد بظل الرمح أو الرمحين أبعد هذه الاحتمالات، ويختلف تقدير ظل الرمح عن ظل الرمحين اختلافاً كثيراً من حيث الوقت .
وأن تقييد وقت النهي في الصباح ببروز الشمس في الارتفاع كاملة ، وفي المساء دخول حاجبها في الأرض هو أولى الأقوال في نظري والعلم عند الله تعالى ، والتقييد بقيد رمح للناظر للشمس من باب تحقق الارتفاع والانفصال عن وجه الأرض، والله تعالى أعلم .
كتبه : محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق