حكم السجود لله مستقلا:
————
( الخلاصة : يجوز السجود لله تعالى سجوداً منفرداً عند وجود سبب للسجود أو مطلقاً، مع أنه خلاف الأولى إلا ما وردت به السنة كسجود التلاوة ).
————
يجوز السجود لله تعالى سجوداً مستقلاً عن الصلاة مطلقاً أو عند وجود سبب له ، كالسجود من أجل الدعاء على الأصح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة خلافاً لمن منع مطلقاً، أو منع عند عدم وجود سبب له.
وذلك للأسباب التالية :
١ -أن مجرد السجود يكون عبادة مستقلة دلت عليها نصوص كثيرة ، قال تعالى :( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) والسجود ههنا وإن كان لآدمي من باب التكريم ، ولكنه من جهة طاعة الله تعالى بامتثال أمره، فيكون سجودهم لآدم عبادة لله تعالى بامتثال أمره.
وقال تعالى عن سحرة فرعون فألقي السحرة ساجدين ، قالوا آمنا برب العالمين ، رب موسى وهارون )
والقاعدة : شرع من قبلنا إذا ثبت في شرعنا أنه شرع لهم ولم ينسخه شرعنا ، فهو شرع لنا- كما تقدم بيانه في القواعد -.
ولم يثبت في شرعنا نسخ كون السجود عبادة مستقلة .
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ) فدل على على أن السجود - ولو كان مستقلاً - في شريعتنا لا يصرف إلا لله تعالى ، ودل على أن السجود يمكن أن يكون عبادة مستقلة .
ولأن مجرد السجود : من جنس العبادات التي ورد في الشرع لها نظائر مشروعاً بدون صلاة ، كما في سجود التلاوة، وسجود الشكر ، ومجرد السبب لا يخصصه، لأن القاعدة : العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
٢ - فإن قيل : هذه عبادة ، والقاعدة : الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع إلا ما دل الدليل على مشروعيته .
فالجواب من أوجه :
أ - عدم التسليم بكون الدليل لم يدل على مشروعية التعبد لله تعالى بمجرد السجود ، فالأدلة السابقة تدل على كون السجود عبادة مستقلة لا تصرف إلا لله تعالى ، وكون السجود مشروع مع الصلاة لا يمنع مشروعيته في غيرها كالتلاوة والشكر، ونحوهما.فالسجود من جنس ما يتعبد لله تعالى به .
ب - القياس يقتضي مشروعية التعبد لله تعالى بمجرد السجود مستقلاً ، قياساً على سجود التلاوة والشكر ، بجامع التعبد لله تعالى بمجرد السجود ، مع اختلاف سبب السجود ، والاختلاف في السبب لا يمنع المشروعية على الأصح .
فإن قيل : لا قياس في العبادات.
فالجواب : من أراد بذلك : لا قياس في التعبدات، وهي التي لا تعرف علتها وحكمتها، كان معنى القاعدة صحيحاً، وإن أراد لا قياس في العبادات التي تعرف علتها ومعناها ، فهو خطأ، ففرق بين العبادات والتعبدات، وفي الحديث( أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيته، قالت : نعم ، قال : ( اقضوا الله فدين الله أحق بالقضاء) فكان قياس الصيام أو الحج على دين الآدمي ، والصيام والحج من العبادات.
٣ - فإن قيل : التعبد لله تعالى بالركوع مستقلاً عن الصلاة ليس بمشروع بالاتفاق - كما ذكره النووي - فكذا السجود .
فالجواب :
أ - أن جنس الركوع لم يكن مشروعاً مستقلاً، بخلاف السجود، وفرق بين ما جنسه مشروع ، وما جنسه غير مشروع - كما بيناه في الفرق بين من حمد الله تعالى في الصلاة عند العطاس، أو غيره، وبين من قال : رحمك الله ، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الذي قال : رحمك الله في الصلاة لما عطس الرجل، ولم ينكر على الذي قال : الحمدلله.
ب - أن كل ما فيه تعظيم لله تعالى فهو مشروع ما لم يدل الدليل على المنع، وفي صحيح البخاري( والله لا يسألونني خطة يعظمون بها هذا البيت إلا أجبتهم لها) وقد حكي الاتفاق على عدم مشروعية التعبد لله تعالى بمجرد الركوع ركوعاً مستقلاً.
٤ - فإن قيل : مجرد السجود سجوداً مستقلاً، توفر سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله .
فالجواب : القاعدة في ذلك : عدم الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم للشيء، لا تعني كراهة ذلك الفعل .
لأن الكراهة تحتاج إلى دليل يدل على النهي ،
وعدم الفعل ، ليس نهياً عن الفعل، وإنما يدل على خلاف الأولى .
-----
فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأذان مع أمره به، بل هو فرض كفاية ، لورود نصوص تدل على الأمر به ، ( إذا حضرت الصلاة ، فليؤذن لكم أحدكم، وليأمكم أكبركم).
وقال صلى الله عليه وسلم ( لا آكل متكئاً ) لا يدل على الكراهة لأنه لم ينه عنه، وإنما يدل على أن الأكل في تلك الحال ، خلاف الأولى ، ولو ورد نهي عن الأكل متكئاً لقلنا بالكراهة، ولأنه لم ينه وإنما لم يفعل.
@ فالسنة ؛ إما فعل .
وَيشمل ذلك : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
فيدخل في ذلك الجائز فعله، والمستحب، والواجب ، وكل ما فعله مشروعاً.
@ وإما ترك - وكذلك السنة تشمل ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم - فتركه سنة . - وقد سبق في القواعد : أن الترك فعل - .
@ وضابطه : ما توفر سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يفعله ، مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، فتركه هو السنة .
مثل ترك رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة والخطيب يدعو في غير الاستسقاء.
وكذا ترك رفع اليدين بعد السلام في الدعاء
( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)
عند من يقول بكونها بعد السلام، ونحو تلك الأدعية بعد فرائض الصلاة بعد السلام .
@ وأما فعل ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم ، فالأصل فيه أنه خلاف الأولى، وقد يكون بدعة : إذا كان فيه إحداث في دين الله ما ليس منه، كمن يرفع يديه في الصلاة في الدعاء بين السجدتين، وقديكون مكروهاً إذا كان فيه نهي لا صارف له، وقد يكون مكروهاً: إذا وجد النهي عن ذلك الفعل إذا كان له صارف .
فيدخل في عدم الفعل : البدعة، والمحرم ، والمكروه، وخلاف الأولى .
فكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه مجرد السجود مستقلاً ، لا يعني بدعيته، فما توفر سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله مع وجود المقتضي وانتفاء المانع ، توكه هو السنة، وأما فعله فقد يكون خلاف الأولى ، وهو الأصل، وقد يكون بدعة وقد يكون مكروهاً أو محرماً، بحسب الأدلة، والله تعالى أعلم .
كتبه/ د. محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق