قاعدة: فرق بين الفعل والمفعول:
———
الفقر في ذاته: غير مذموم (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) أي يضيق عليه.
وأفعال الله تعالى لا يجوز ذمها (لا تسبوا الدهر، أنا الدهر أقلب الليل والنهار).
وفرق بين الفعل والمفعول.
والفقر: قد يكون خيراً للإنسان.
وكون النفس تكره ذات الفقر لا إشكال فيه، فهذه كراهة نفسية لا شرعية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الضب (إني تجدني نفسي تعافه). ولم يحرمه.
وأما كونه فعل الله عز وجل وأن الله تعالى أوجده، فلا يجوز سبه والحالة تلك.
فمن سب الفقر، يعتقد أن الفقر هو الذي أحدث هذا الفعل الذي سب الفقر بسببه، فهذا شرك أكبر؛ وذلك أنه لا خالق إلا الله تعالى.
فالذي يوجد الأشياء من العدم هو الله تعالى لا غير، ومن اعتقد أن هناك من يوجد الأشياء من العدم غير الله تعالى، فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية، وأما حديث: (الذين يخلقون هذه الصور يقال لهم يوم القيامة ما خلقتم) فالمراد بالخلق ههنا الصنعة، يخلقون: أي يصنعون، وهو تحويل الشيء من شيء إلى شيء، وأما إيجاده من العدم فلا يكون إلا من الله تعالى.
ومن سب الفقر لحدوث الأمر الذي يكرهه بسببه، فهذا محرم، لمنافاته للصبر الواجب.
ومن قصد الخبر المحض بحصول الشيء -التصرف الذي فعله- بسبب الفقر، ولم يقصد السب والشتم، فهذا جائز.
وكذا سب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم: فهذا جائز مثل أن يقول: "تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده" وما أشبه ذلك لأن الأعمال بالنيات واللفظ صالح لمجرد الخبر. ومنه قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ).
وقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ).
حيث وصف الأيام بنحسات، واليوم بعصيب. من باب الخبر لا اللوم والشتم.
القسم الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل كأن يقصد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلِّب الأمور إلى الخير أو الشر: فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا حيث نسب الحوادث إلى غير الله.
القسم الثالث: أن يسب الدهر ويعتقد أن الفاعل هو الله ولكن يسبه لأجل هذه الأمور المكروهة: فهذا محرم لأنه مناف للصبر الواجب وليس بكفر؛ لأنه ما سب الله مباشرة، ولو سب الله مباشرة لكان كافراً.
وأسماء الله تعالى كلها حسنى ليس فيها اسم غير ذلك أصلًا، ومن أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل، نحو الخالق والرازق والمحيي والمميت، وهذا يدل على أن أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها؛ لأنه لو فعل الشر لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلها حسنى وهذا باطل، فالشر ليس إليه فكما لا يدخل في صفاته، ولا يلحق ذاته فلا يدخل في أفعاله، فالشر ليس إليه لا يضاف إليه فعلًا ولا وصفًا وإنما يدخل في مفعولاته، وفرق بين الفعل والمفعول؛ فالشر قائم بمفعوله المباين له لا بفعله الذي هو فعله.
الأشياء المخلوقة فيها خير وشر والله خالق الخير والشر، أما فعل الرب سبحانه: حكمه وقضاؤه وتقديره؛ فكله خير، ليس فيه شر، والشر لا يضاف إلى الله اسمًا، ولا صفةً ولا فعلا، فالشر لا يكون في أسمائه فكلها حسنى، ولا في صفاته فكلها صفات كمال وحمد، ولا في أفعاله فكلها أفعال عدل وحكمة، وإنما يكون في مفعولاته، أي: مخلوقاته،
وهذا ما فُسر به قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والشر ليس إليك)
أنه تعالى لا يخلق شرا محضا؛ بل كل الشر الذي في المخلوقات شر نسبي ليس شرًا محضًا، وهذا يرجع إلى الإيمان بحكمته سبحانه وتعالى، وأنه حكيم، ما خلق شيئا عبثا، لم يخلق شيئا إلا لمصالحَ وحكمٍ يعلمها سبحانه، وليس من شرط ذلك أن تكون عائدة للعبد، بل قد يكون فيها شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي، أو شر مطلق؛ فالله تعالى منزه عنه.
قال شيخنا العثيمين: وقوله: "خيره وشره": أما وصف القدر بالخير، فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خیر وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته، فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل، فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "والشر ليس إليك".
فمثلا، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شرا، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، لأنها لا تلائمه، وفيها أيضأ المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلي الله هي خير، لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا الحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله.
وهذا المفعول الذي هو شر قد يكون شرا في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، قال الله تعالى قال: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعُون) النتيجة طيبة، وعلى هذا، فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً يعني: لا شرا حقیقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خیراً.
ولنفرض حد الزاني مثلا إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير، لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا، ارتدع، بل قد يكون خيرا له هو أيضا، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء.
أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شرا باعتباره مقدورا، کالمرض مثلا، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما کفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع، مثلا لعدم صدق نيته فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب.
ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة، إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى.. هذا أيضا خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة.
ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا يقتلها إلا المرض، يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري.
* وأما حديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه).
* فالمراد أن الدنيا سبب لفتنة الإنسان وخروجه عن طاعة الله تعالى غالباً، وسبب في تغريره وابتعاده عن الخير. فهي بهذا الاعتبار المبعد عن الله عز وجل وطاعته ملعونة.
* وقد روى مسلم في صحيحه حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: (إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
والله تعالى أعلم وأحكم.
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق