حكم إنشاد الضال في المسجد :
حكم إنشاد الضالة في المسجد :
—————
الخلاصة : أن إنشاد الطفل الضال ونحوه من الآدميين منهي عنه ، نهي تحريم وهو الأقرب، وقيل : نهي كراهة - كما هو المذهب عند الحنابلة -.
—————-
١ - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا : لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي وحسنه، وقد وقع في إسناده اختلاف ذكره الدارقطني، ثم رجح رواية ابن مهدي ، عن الثوري، عن يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان مرسلاً .
وعلى فرض صحة الحديث ، أن الدعاء بعدم الربح ، ليس دعاء بالخسارة، فالدعوة الأولى : تدل على الكراهة ،
٢ - ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار ).
وتناشد الأشعار في المسجد إذا لم يكن فيها محذوراً شرعياً، لا بأس به ، ويحمل النهي على الكراهة، بدليل ما جاء في الصحيحين أن عمرين الخطاب مرّ بحسان ينشد في المسجد ، فلحظ إليه- نظر إليه نظرة إنكار – ، قال : كنت أنشد ، وفيه من هو خير منك). ودلالة الإقتران تقوى أحياناً، وتضعف أحياناً بحسب دلالة النص، خلافاً لمن ضعفها مطلقاً من الأصوليين .
٣ - وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل : لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا ) وفي مسلم من حديث بريدة أن رجلاً نشد في المسجد فقال : من دعاء إلى الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له ).
والمراد ، لم تبن لما لا يليق بالمساجد شرعاً أو حساً، على سبيل التحريم أو الكراهة بحسب الأدلة، بدليل جواز الأكل والشرب والنوم، كما كان يفعل أهل الصفة ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولما في الصحيحين عن عائشة قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد).
ولما في الصحيحين من حديث أبي هريرة. ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً، فجاءت برجل ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ).
وعن عائشة قالت : أصيب سعد يوم الخندق فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد، ليعوده من قريب ).
فهذه الأدلة تدل على مشروعية تلك الأعمال ونحوها في المسجد مالم يدل دليل على النهي عن شيء بعينه نهي تحريم أو كراهة .
وقد يقال : إن إنشاد الضالة ، لا يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بعدم ردها، وهذه عقوبة للدعاء عليه، ولو لم تكن محرمة لما استحق الدعاء عليه .
فيكون الأصل جواز ما ليس بمحرم في المسجد كالأكل والشرب والنوم ونحوها ما لم يدل الدليل على التحريم .
وقوله صلى الله عليه وسلم – في إنشاد الضالة في المسجد -( فإن المساجد لم تبن لذلك ) حكمة، وليست علة، إذ لو كانت علة لما جازت المساجد إلا في الأمور التعبدية، فلما جاز الاكل والنوم واللعب بالحراب والسهام دلّ على أن هذا اللفظ حكمة ، والحكمة : ما يترتب على الحكم الشرعي من جلب لمصلحة أو دفع لمفسدة .
@ ويحتمل أن هذه الجملة ( فإن المساجد لم تبن لذلك ): أن تكون مقرونة بالقول لهذا المنشد ، بمعنى أن نقول عندما نسمع منشداً ينشد ضالة : لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا . أي لم تبن لإنشاد الضالة ، فتكون الجملة مقتصرة على إنشاد الضالة ، ولا يشمل الأكل والشرب ونحوهما، ولا يعارض هذا الأول .
ويحتمل ( فإن المساجد لم تبن لهذا ) مما هو مناف لها، وهذا لا يعلم إلا عن طريق الشرع ، فيكون مناف لها منافاة كراهة، أو مناف لها منافاة تحريم بحسب الأدلة .
@ فإن قيل : النهي الذي يدل على التحريم في إنشاد الضالة في المسجد، ألا يقتضي القياس عليه: تحريم البيع والشراء في المسجد، فإذا كان النهي عن إنشاد الضالة في المسجد ، فالبيع والشراء من باب أولى ، خصوصاً( فإن المساجد لم تبن لهذا ) بشملهما .
فالجواب : أن النهي عنهما وارد في الأحاديث ، وبحسب الأدلة يكون النهي للتحريم أو الكراهة ، وحيث دلت الأدلة على التحريم في إنشاد الضالة لا يلزم منه أن يكون النهي في البيع والشراء للكراهة .
والغريب من الحنابلة في مذهبهم ، عكسوا الأمر، فقالوا بالتحريم في البيع والشراء في المسجد، وقالوا : بالكراهة في إنشاد الضالة في المسجد .
@ وهل في حكم إنشاد الضالة : من أنشدها يطلب من هي له ، مثل أن يقول الإمام في المسجد من ضاع له مفتاح أو مال فهو عندنا .
أما من أنشد لنفسه : كأن يقوم رجل في المسجد فيقول : ضاع لي مال فمن وجده ، فهو لي. هذا ورد النص في النهي عنه ، وهو في حكم إنشاد الضالة .
أما الأول فهو يعرف بالمال ، وينشد لغيره:
فمن أهل العلم من فرق بينهما، وقال : بان هذا يطلب ماله، وهذا يطلب التخلي عن مال غيره،
وفرق بين المحسن والمسيء.
والجواب : أن كلاهما مشترك في الإنشاد ، فالأول : ينشد لنفسه، والثاني ينشد لغيره، والفعل : هو الإنشاد، وإذا كان منهي عن الأصل، فالفرع من باب أولى .
فإن قيل : ألم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم المال في المسجد للذين أتوه فرأى في وجوههم الحاجة والفاقة .
فالجواب : إن هذا ليس من أنشاد الضالة في شيء، وإنما فيه جواز جمع المال تبرعاً في المسجد، ودليل على أن كل عمل مباح يشرع في المسجد مالم ينه عنه .
@ فأن قيل : هل يدخل في الإنشاد المنهي عنه : رفع الصوت بالسؤال عن الطفل في المسجد .
فالجواب : من أهل العلم من رخص في الطفل، لأنه لا يعتبر مالاً ولا ضالة ، ولأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الحيوان، – وهذا ما ذهب إليه شيخنا العثيمين – .
والجواب : أن المنهي عنه هو الأنشاد ، فيشمل ذلك الحيوان والإنسان واللقطة .
وذكر الضالة في الحديث لا مفهوم له .
والقاعدة : التخصيص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم به لم يبق مفهومه حجة .
وإنما وردت الضالة في النص، لكون السائل سأل عنها، وما خرج جواباً لسؤال فلا مفهوم له . وبذلك أفتت اللجنة الدائمة .
ويؤيد ذلك الأسباب التالية :
١ - أن الضال له حكم الضالة.
والقاعدة : المنصوص عليه ، وما في معناه ، حكمهما واحد .
٢ - قياس النفس ولو كانت رقيقة وفيها معنى المال ، بإنشاد المال في المسجد، مع أن كلاً منهما محترم ومن الضروريات الخمس.
والتفريق بين الآدمي والضالة بالمالية ، بكون الضالة : مال، والنفس ليست بمال، منتقض، بالآدمي الرقيق، ولأن النهي منصب على الإنشاد لا على المالية من عدمها.
٣ - أن العلة في النهي عن أنشاد الضالة في المسجد، كون ذلك إنشاد في المسجد ، وكون المساجد لم تبن لهذا : حكمة وليست بعلة.
والقاعدة : المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته .- وقد سبق شرح هذه القاعدة في القواعد -.
ولا فرق بين إنشاد الضالة بصوت مرتفع أو منخفض، أو إنشادها لجميع من في المسجد ، أو الواحد والإثنين منهم .
٤ - ولأن المساجد منزه عن الإعلان والبحث والتنقيب عن المفقود من الدواب والآدميين .
٥ - ولأن العموم المعنوي يتناول الكل، - الضال، والضالة - والتمييز بينهما تحكم.
٦ - ولكون كل منهما يشترك في كونه ضال عن صاحبه، - الضالة ، وكذا الضال -.
٧ - ولأن القياس يقتضي المنع.
والقاعدة : الشريعة لا تفرق بين متماثلين، ولا تجمع بين مختلفين.- سبقت في القواعد -.
٨ -علماً بأن المعتمد في مذهب الحنابلة : أن إنشاد الضالة في المسجد : مكروه وليس بمحرم ، وبناء عليه فإن إنشاد الضال عندهم مكروه لا محرم - وقد تقد بيان ذلك في حكم البيع والشراء في المساجد - .
٩ - فإن قيل : لكن معنى حفظ الانسان اعظم من حفظ الضالة من المال .
فالجواب: أنه لم يتعين طريقاً وحيداً في الحفظ.
والضرورة لا تكن ضرورة إلا بشرطين:
أ - أن نتيقن أن بها تزول الضرورة .
ب - أن لا يوجد غيرها يقوم مقامها .
وهذا لا يتوفر في إنشاد الضال في المسجد ، بل يمكن إنشاده في غير المسجد، ولا نتيقن أن به يزول الضرر، بل قد يتم في المسجد ، ولا يعثر على الضال .
تنبيه : تتميمم للفائدة ، يراجع ما قرر ناه سابقاً في حكم البيع والشراء في المسجد .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق