——————————-
القاعدة الرابعة عشرة:
إذا وجد سبب إيجاب أو تحريم من أحد رجلين لا يعلم عينه منهما، فهل يلحق الحكم بكل واحد منهما، أو لا يلحق بواحد منهما شيء؟
يمكن بيان هذه القاعدة بعدد من القواعد:
1- "إذا تزاحمت الحقوق ولا مرجح فالمرجع إلى القرعة".
دليل ذلك قوله تعالى عن يونس عليه السلام (فساهم فكان من المدحضين)، وشرع من قبلنا شرع لنا ، إذا ورد في شرعنا أنه شرع لمن كان قبلنا، ولم ينسخه شرعنا .
ومما يدل على هذه القاعدة أيضاً: أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا أرادَ سَفَرًا أقْرَعَ بَينَ نِسائِه، فأيَّتُهنَّ خرَجَ سَهمُها خرَجَ بها معه . كما في صحيح البخاري .
2- "إذا تعارض أصلان قدم الأقرب منهما".
مثاله من طلق طلقتين، فعلى رأي : الجمهور أن الطلاق يقع إذا كان قاصدا إيقاع الطلقة الثانية، وإن كان مقصوده التأكيد فيقع طلقة واحدة ، وإن قال لا أدري ما قصدت بالطلقة الثانية - هل يريد بها التأسيس أو التأكيد - فهنا يتعارض أصل بقاء الزوجية مع أصل التلفظ بالطلاق ونفاذه، وهو الأصل الأقرب هنا، لأن إعمال الكلام أولى من إهماله، ولأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التأكيد، ففي التأسيس مزيد فائدة.
3- "الأصل في الأبضاع التحريم".
ودليله حديث عقبة بن الحارث -رضي الله عنه- مرفوعاً: «أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أَمَة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-. قال: فأعرض عني. قال: فَتَنَحَّيْتُ فذكرت ذلك له. قال: كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟!».
وفي هذا تقديم الأصل الأقرب وهو وجود المانع الموافق لأصل تحريم الأبضاع، مقدما على أصل بقاء الزوجية لبعده مع هذا المانع.
4- "إذا تعارض الأصل والظاهر يقدم الظاهر"،.
وسبق بيانه في القواعد السابقة.
الأمثلة:
١ - * ذكر المصنف أنه إذا وجد اثنان منيا ً في ثوب ينامان فيه أو سمعا صوتا خارجاً، ولم يعلم من أيهما هو.
ففي المسألة روايتان، وبإعمال القواعد التي ذكرناها عليه فإننا ننظر في المرجحات إن وجدت عملا بالظاهر وتقديما له على أصل الطهارة، كمن وجد منه تفكر أو مداعبة فيجب عليه الطهارة دون صاحبه، فإن في إبجاب الطهارة والغسل عليهما إيجاب ما لم يوجبه الله، ولا يمكن رفع الحكم عنهما جميعا، لأن أحدهما محدث يقينا، فالرفع للحكم تجويز للصلاة مع وجود الحدث الأكبر، وهذا لا يصح، والمتيقن هنا وجوب الغسل على واحد منهما لا بعينه، فالمرجع والحال هذه إلى القرعة عند عدم وجود قرائن الترجيح واستوى الطرفان فيه.
٢ - * إذا قال أحد الرجلين إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق،.
وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق،
وغاب ولم يعلم ما هو، ففيهما وجهان، وهذه المسألة لها تعلق بقاعدة "فرق بين تعليق الشيء على مجرد الفعل، وبين تعليقه على الفعل الاختياري"، وبإعمالها عليه مع القواعد السابقة فلا تخلو المسألة من حالين، الأولى: أن يقصد مجرد تعليق الطلاق على كونه غراباً ليكون علامة يعرف عندها وقوع الطلاق، بغير قصد تصديق كلامه أو تكذيب المخاطب، فهنا تطلق إحدى المرأتين بالقرعة لخلو المسألة من المرجحات،
والحال الثانية أن يكون قصدهما - وهو الظاهر هنا - تصديق أنفسهما وتكذيب المخاطب فلا تطلق واحدة منهما، ويكون هذا الطلاق منهما كنذر اللجاج فيمن يقول إن كنت كاذبا فعلي صيام عشر سنين ونحوه.
فقد علق الأمر على الفعل الاختياري لا على مجرد الفعل، كمن حلف على غلبة ظنه وتبيه خلافه، فهو في حكم الله صادق ، وإن كان مخالفاً للواقع ، ومنه قوله تعالى ( فأولئك عند الله هم الكاذبون ) أي في حكم الله تعالى ، وإن كان موافقاً للواقع غير مخالفاً له في اللغة .
٣ - ومن ذلك ما لو قال أحدهما إن كان غرابا فأمتي حرة، وقال الآخر إن لم يكن غرابا فأمتي حرة، فيجرى على هذه المسألة ما قيل في الطلاق، والله أعلم.
———————————————————-
القاعدة الخامسة عشرة:
إذا استصحبنا أصلا أو أعملناً ظاهرا ً في طهارة شيء أو حله أو حرمته، وكان لازم ذلك تغير أصل آخر يجب استصحابه، أو ترك العمل بظاهر آخر يجب إعماله، لم يلتفت إلى ذلك اللازم على الصحيح.
يمكن بيان هذه القاعدة بعدد من القواعد:
1- "لازم المذهب ليس بمذهب، ولكنه يدل على بطلان المذهب".
2- "لازم النص الشرعي لازم، ولازم خطاب الآدمي ليس بلازم".
لأن الشارع لا يغفل عن لازم أمره أو خطابه، بخلاف الآدمي يذهل عن لازم خطابه.
3- "مفهوم المخالفة في كلام الشارع حجة دون مفهوم المخالفة في كلام الآدميين فليس بحجة".
لما سبق .
4- "لازم الشيء يكون لازماً في حق الشخص المتلفظ به دون غيره، وذلك في حال كان اللازم محصورا في ذلك اللازم".
ودليل هذه القاعدة الأخيرة حديث العسيف الذي زنى بالمرأة، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل إقراره قاصرا عليه ولم يأخذ المرأة بلازم إقراره بل قال "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها".
ويدل لها أيضا مسألة إقامة الحد على من حملت ولا يعرف لها زوج، فإن عمر رضي الله عنه أخذ به عملاً باللازم في حقها، وخالفه غيره لاحتمال أن تكون مكرهة أو بسبب نكاح شبهة أو غيره لا بسبب الزنا .
5- "إذا تعارض الأصل والظاهر قدم الظاهر".
6- "الحكم بالعلامة مقرر في الشرع والعقل".
ومجموع هذه القواعد يتضح به مسائل هذا الباب.
مثال: إذا استيقظ من نومه فوجد في ثوبه بللا وحكمنا بعدم وجوب الغسل لما ظهر من كونه مذياً للفكرة أو المداعبة السابقة، فهل يلزم منه نجاسة الثوب أيضا؟ مقتضى القواعد السابقة هو نجاسة الثوب إذن لأن الظاهر مقدم على الأصل، ولا ينظر هنا إلى أصل طهارة الثوب لكونه معارضا بالظاهر وهو مقدم عليه .
ومن ذلك: إذا رمى حيوانا ًمأكولا بسهم ولم يوحه، - لم يهلكه فوراً - فوقع في ماء يسير فوجده ميتا، فإن الحيوان لا يباح، خشية أن يكون الماء أعان على قتله، والأصل تحريمه حتى يتيقن وجود السبب المبيح له، ولا يلزم من ذلك نجاسة الماء أيضا بحكمنا على الصيد بأنه ميتة، بل نستصحب في الماء أصل الطهارة فلا ننجسه بالشك، هكذا قال المصنف.
والصواب والله أعلم هو تقديم الظاهر، وهو أن الرمي كان سبب قتله، فيرجح على أصل تحريمه.
فائدة: مما يحسن الإشارة إليه هنا فيما يتعلق بقاعدة المفاهيم، أن خطاب الشارع إذا كان مسوقا لمسألة في باب معين فلا يستعان بهذا المفهوم على معارضة منطوق في باب آخر، "فالمنطوق مقدم على المفهوم"، ومنه ما استدل به بعضهم من أن سفر المرأة بدون محرم جائز، لحديث "توشك الظعينة أن تسافر من مكة إلى صنعاء لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها"، وهذا استدلال ضعيف على جواز سفر المرأة بلا محرم .لكونه معارضا بمنطوق أحاديث النهي عن سفر المرأة بغير محرم، ( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم )
ولأن حكاية الحدث الذي سيكون لا يلزم منه حله وإباحته، والله أعلم.
22 ذو القعدة 1443.
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
كتبها عنه تلميذه : هنيدي بن يحى الزهراني من خلال شرحه لقواعد ابن رجب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق