—————————————
القاعدة السادسة عشرة:
إذا كان للواجب بدل فتعذر الوصل إلى الأصل حالة الوجوب، فهل يتعلق الوجوب بالبدل تعلقا مستقرا بحيث لا يعود إلى الأصل عند وجوده؟
يمكن صياغة هذه القاعدة بصياغة أخرى :
قاعدة : العبرة بوقت فعل الواجب إذا كان له بدل ، والأصل في الأمر الفورية.
وذلك لأن القاعدة : العبرة بالمنظور - عند الشروع في أداء الواجب - لا المنتظر .
فمن وجبت عليه كفارة تعين فعلها عليه فعلها فوراً، فإن تأخر من غير عذر استحق الإثم .
فإن أراد الفعل بعد ذلك وأمكن فعل الأصل تعين عليه، وإن لم يمكنه إلا فعل البدل وكان البدل مرتباً وجب عليه ما استطاع منه بحسب ترتيب البدل ، فإن فعل ما استطاع من البذل برئت ذمته ، لأن العبرة بالمنظور - وقت الفعل - لا المنتظر الذي يمكن أن ينتظره حتى يستطيع فعله .
فإن شرع في البدل لعدم قدرته على الأصل ثم قدر على الأصل لا يلزمه ترك ما شرع فيه وكان البدل والحالة تلك مجزئياً عن الأصل إذا أتمه، لعدم كون ذلك مانعاً مبطلاً للبدل ، بل فعل لفقد شرطه، وهو عدم القدرة على الأصل.
والقاعدة : فرق بين انتفاء الشرط، ووجود المانع.
فما شرع فيه ثم وجد المانع في أثنائه أبطله، كمن أحدث وهو يصلي، ومن فقد شرطاً ثم فعل ووجد الشرط في أثناء فعله لم يبطل فعله، كمن صلى لفقد شرط ستر العورة ثم وجد ما يستر به عورته وهو يصلي ، ستر عورته ولم يعد صلاته من جديد.
فالعبرة في تعلق الفعل بالذمة بحال الوجوب، بشرط أن يفعل، فإن لم يفعل فيكون الوجوب بحسب الترتيب في الوجوب إن كان متعددا، وإلا فيعود إلى الأصل.
وهذا متفرع عن مسألة: هل الواجبات تثبت في الذمة مع العجز عنها ؟
الجواب : نعم .
ويدل له حديث الذي واقع أهله في رمضان، فإن النبي ﷺ حين لم يجد من خصال الكفارة شيئا يطيقه سكت عنه ولم يسقطها، حتى إذا جاءه رجل بعرق من تمر قال خذه فأطعمه أهلك .
ولهذا أمثلة ذكرها المصنف، منها:
١- من عدم هدي المتعة ووجب عليه الصيام ثم وجد الهدي قبل الشروع فيه فهل يجب الانتقال إلى الهدي لكونه الأصل أو لا؟
نقول إن العبرة بحال الوجوب إن كان قد شرع، وإن لم يكن شرع كحاله هنا فيكون على الترتيب الأصلي فيجب عليه الهدي، ويشبه هذا كفارة الظهار واليمين ونحوهما إن كان شرع فيما قدر عليه تعلق به الوجوب فلا يعدل إلى المبدل منه عند وجوده، وإن لم يكن شرع فيرجع إلى الأصل أو إلى ما هو أعلى من خصال الكفارة على ترتيب كل في بابه.
٢- إذا أتلف شيئا له مثل وتعذر وجود المثل وحكم الحاكم بأداء القيمة ثم وجد المثل قبل الأداء وجب أداء المثل، لأنه قدر على الأصل قبل أداء البدل، فلزمه كما لو وجد الماء قبل الصلاة، وتخريج هذا على القاعدة ظاهر.
٣- يتفرع على ما ذكره المصنف من وجدان الماء قبل الصلاة لمن أراد التيمم مثالان، الأول من وجد التيمم بعد شروعه في الصلاة فهذا لا يرجع إلى الأصل وتصح صلاته بتيممه تخريجا على قاعدة التفريق بين فوات الشرط وانتفاء الموانع، إذ تصح العبادة مع فوات الشرط لعذر بخلاف المانع فلا تصح به، ولأجله صححنا الصلاة المجموعة إلى ما بعدها لعذر المطر وإن انقطع المطر بعد تكبيره للثانية، ولم نشترط له استمرار العذر عملا بهذه القاعدة، أما انتفاء الموانع فلا تصح العبادة إلا به، فمن حاضت قبل غروب الشمس بلحظة بطل صيامها، ومن أحدث قبيل تسليمه بطلت صلاته.
٤- لو جعل الإمام لمن دل على حصن للعدو جارية من أهله، فأسلمت بعد الفتح أو قبله، وكانت أمة فإنه تجب له قيمتها إذا كان كافرا، لأنه تعذر تسليم عينها، فوجب له البدل، فإن أسلم بعد إسلامها فهل يعود حقه إلى عينها، ثاني القولين أن حقه يعود إليها لأنه إنما انتقل إلى القيمة لمانع وقد زال، فعاد حقه إليها.
٥- لو أصدقها شجرا فأثمرت ثم طلقها قبل الدخول، وامتنعت من دفع نصف الثمرة مع الأصل تعينت له القيمة، وهذا لأن الثمرة تابع، والخراج بالضمان، وقد تعذر رد المثل لتغير القيمة والعين، إذ المثلي هو ما لم تتغير قيمته أو عينه على الأصح خلافاً للمذهب ، وقد فات هنا بطلوع الثمرة فتعينت القيمة، وفي الرجوع إلى الأصل بأخذ نصف الشجرة وترك نصف الثمرة عليها قولان يخرجان على هذه القاعدة في إجبارها عليه من عدمه، والأقرب صحة إجبارها عليه إن رضي به الزوج، ومثيله ما لو ترك أخذ القيمة حتى قطع الطلع وعاد النخل كما كان فللزوج الرجوع في نصفه.
————————————————————
القاعدة السابعة عشرة:
—————————
إذا تقابل عملان أحدهما ذو شرف في نفسه ورفعة وهو واحد، والآخرذو تعدد في نفسه وكثرة، فأيهما يرجح؟ ظاهر كلام أحمد ترجيح الكثرة.
خلاصة القاعدة وضابطها وإعادة صياغتها
:
ما دلت السنة على فضيلته فهو أولى بالاتباع وأعظم أجرا، وأما ما لم تدل على أفضليته السنة فيرجع إلى الاجتهاد في كل بحسبه.
الأمثلة :
١ - من زاد على إحدى عشرة ركعة في قيام رمضان أو غيره فهو خلاف السنة والأولى، واتباع السنة في هذا أعظم أجرا.
٢ - من أراد أن يذبح شاة يتصدق بها، ووجد شاة سمينة، ووجد شاتين أكثر لحما بمجموعهما بسعر تلك الشاة السمينة، فأيهما أفضل؟ نقول أنه ينظر في الأحوال المصاحبة لذلك، فإن وجد أن الشاتين يجتمع عليها من الفقراء جمع كبير ويحصل بها من الألفة وإراقة الدماء لله تعالى ويصل بها من قرابته عددا زائدا على الشاة الواحدة إلى غير ذلك من الفضائل فتكون بهذا الاعتبار أفضل من الشاة السمينة الواحدة.
٣- رجل قرأ بتدبر وتفكر سورة واحدة، وآخر قرأ سوراً
عديدة سردا ً في نفس المدة، فيقال فيه يكون الأفضل في حق كل واحد بحسبه مما يجده من الإيمان وإقبال النفس.
٤- رجل أكل وشبع وأكثر الصلاة والصيام، وآخر أقل الأكل فقلت نوافله وكان أكثر تفكراً، أيهما أفضل، ويقال فيه ما سبق.
ويدخل في هذا ما ورد عنه ﷺ من تفضيله لبعض الأعمال مراعاة لاختلاف أحوال الناس، فقد ورد عنه ﷺ أن رجلا استوصاه فقال لا تغضب، قال أوصنى قال: لا تغضب، فردد مرارا قال: لا تغضب"، واستوصاه آخر، فقال "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله"، وقال للأسلمي "أعني على نفسك بكثرة السجود"، ويدخل في هذا ما ورد عنه ﷺ من ثنائه على صحابته بما فتح لكل منهم، وفيه إشعار لهم بملازمة ما فتح لهم من الخير، فهو أعظم للأجر باعتبار الحال والمآل، لاسيما ومن الصفات التي تفضل بها الأعمال ما يقترن بها من الاستدامه، قال ﷺ "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" والله أعلم.
—————————————————————————
القاعدة الثامنة عشرة:
—————————
إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد في وقت واحد، ليست إحداهما مفعولة على وجه القضاء، ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما واكتفي بفعل واحد.
تتضح هذه القاعدة بعدد من القواعد:
القاعدة الأولى: "إذا تحقق مقصود الشارع صح التداخل ، وإلا فلا".
القاعدة الثانية: "العبرة في الحج بنفس الفعل لا بنية الفاعل".
وسبق سياق أدلة هذه القاعدة في القاعدة الحادية عشرة.
ومثاله من اعتمر عن غيره في أشهر الحج ثم حج عن نفسه من عامه كان حجه تمتعا وعليه الهدي، لقوله تعالى "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي"، فالعبرة بصورة الفعل التي أوقعها لا بينته الإفراد في الحج.
القاعدة الثالثة: : كل ما اتحد حكمه واختلف سببه فالعبرة فيه بالحكم لا بالسبب"- إذا تحقق مقصود الشارع - .
ومثاله: من أحدث أحداثا عدة فيكفيه الطهارة من أحدها لأن الحكم واحد - وهو رفع الحدث - وإن تعددت أسبابه.
- وهي نواقض الوضوء.
القاعدة الرابعة : فرق بين انتفاء الشرط، ووجود المانع .
لهذه القاعدة أمثلة:
١- من عليه حدثان أصغر وأكبر كفاه الغسل عن وضوئه، لأن المقصود واحد وهو الطهارة وقد حصل، قال تعالى "وإن كنتم جنبا فاطهروا" وعند البيهقي أنه ﷺ كان إذا اغتسل لم يتوضأ. *ملاحظة بحثت ولم أجد نص هذا الحديث*
٢- القارن إذا نوى الحج والعمرة كفاه طواف واحد وسعي واحد على الصحيح.
٣- إذا نذر الحج ولم يكن حج عن فرضه، ثم حج، وقعت عن فرضه لا عن نذره، لمفارقة الحج سائر العبادات في مسألة النية، ويقع في باب الحج ما هو مشروع في نفس الأمر لا ما في نية الفاعل، وسبق تأصيل هذا في القاعدة الحادية عشرة، ولأن مقصود الشارع لا يتحقق بتداخل النذر مع فرضه في الحج، فالفرض واجب بأصل الشرع، والنذر إنما أوجبه العبد على نفسه، وفي هذا فرق في التكليف والتعبد لا يخفى.
ففي الحج فداء لواجب الشرع، وفي النذر فداء ما أوجبه على نفسه فلم يصح ابتداخل لاختلاف المقصود في كل منهما.
٤- إذا نذر أن يصوم شهرا إن قدم فلان، فقدم في أول رمضان، لم يجزئه إلا ما نوى صيامه، لعدم تداخل العبادتين، ويقال فيهما ما قيل في مثال الحج السابق من أصل المشروعية وإلزام النفس في النذر، ولأن الصيام واجب مضيق لا يتسع لغيره فلا يزاحم بغيره، إذ القاعدة "أن المشغول لا يشغل إذا كان الشاغل أجنبيا وكان المشغول لا يتسع".
٥- لو طاف عند خروجه من مكة طوافا واحدا، ونوى به الزيارة والوداع صح عنهما، لأن مقصود الشارع من طواف الوداع أن لا ينفر حتى يكون آخر عهده بالبيت وهذا يدخل تحت طواف الإفاضة إذا أخره الحاج إلى آخر مناسكه .
٦- من أدرك الإمام راكعا فكبر تكبيرة ينوي بها الإحرام وتكبيرة الانتقال، فذكر فيه المصنف خلافا، والصواب والله أعلم أن هذا ليس من هذا الباب، لاختلاف موضع التكبيرتين، فتكبيرة الإحرام تكون حال القيام، وتكبيرة الركوع تكون في حين الانتقال، فاختلف موضعهما، فلم يصح الاكتفاء بتكبيرة الإحرام .
٧- إذا دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فصلى معهم سقطت عنه التحية، والتعبير بالسقوط هنا من المصنف للتفريق بين سقوط الوجوب، وبين تداخل العبادتين وحصول أجرهما في مثل تشريك نية تحية المسجد مع نية سنة الفجر الراتبة، وهو واضح بهذا، ويشبه هذا ما ذكره المصنف أيضا من أن صلاة المكتوبة بعد الطواف تسقط بها ركعتا الطواف.
٨- إذا اجتمع عقيقة وأضحية، فهل نقول بأن مقصود الشارع يقع مجموعا بفعل واحدة منهما، أو لا فلا تجزئ إلا مفرقة، الأقرب والله أعلم أن ثم فرقا لا يتحقق به المقصود، إذ المقصود بالأضحية فداء النفس، والمقصود بالعقيقة فداء الولد، ولا يجتمعان بشاة واحدة، فانتفى التداخل ولم يصح ، والله أعلم.
٢٨ ذو القعدة ١٤٤٣هـ.
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
كتب ذلك عنه تبميذه : هنيدي بن يحى الزهراني من شرحه لقواعد ابن رجب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق