تحرير قواعد ابن رجب :
————————————
القاعدة الثانية عشرة:
المذهب - عند الحنابلة - أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة يجوز فعلها على جميع تلك الوجوه الواردة فيها من غير كراهة لبعضها، وإن كان بعضها أفضل من بعض، لكن هل الأفضل المداومة على نوع منها، أو فعل جميع الأنواع في أوقات شتى؟
—-
يمكن صياغة هذه القاعدة بقاعدتين : هي:
١ - إن الفعل المفعول لبيان الجواز قد يكون أفضل بذلك الاعتبار، وإن كان غيره أفضل منه باعتبار ذاته".
مثال ذلك:
قال ﷺ "ليس من البر الصوم في السفر"، ومع ذلك كان يصوم في السفر مع شدة الحر كما روى أبو الدرداء أنهم خرجوا مع النبي ... في بعض أسفاره في حر شديد، قال: "وما فِينا صائمٌ إلَّا ما كان مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وابنِ رَواحةَ"، مع أن الصائم إذا شق عليه الصيام في السفر فالأفضل له الفطر، وإن كان يضره الصيام وجب عليه الفطر، وإن كان لا يشق عليه ولا يضره فالأفضل له الصيام كما ورد صيامه صلى الله عليه وسلم في السفر كما في حديث أبي الدرداء السابق .
كما شرب ﷺ لبنا في يوم عرفة والناس ينظرون،
لبيان مشروعية الفطر في يوم عرفة للحاج ، ويتبين بهذا أن الجمع بين هذه الأحاديث يكون بمشروعية الصوم لمن لم يشق عليه في السفر وعدم استحبابه لمن شق عليه، وإباحته عند المشقة مع كراهته، وهنا مسألة وهي أن الفقهاء يذكرون الكراهة حينا ويعبرون بخلاف الأولى حينا، والأول يطلق عند ورود النهي المنصرف إلى غير التحريم، والثاني يطلق عند عدم ورود نهي وتكون الصفة الواردة بخلافه على خلاف الأولى ، كمن يسرد أكثر من نوع من أدعية الاستفتاح في صلاة واحدة.
والعبادات الواردة على أوجه متنوعة للعلماء في صفة فعلها مذهبان، فمذهب الجمهور أن يفعل الأفضل منها، وباقي الصفات الواردة على الجواز إن شاء فعلها ، وإن شاء لم يفعل .
والمذهب الآخر أنه يفعل هذا مرة وهذا مرة ليكون مستناً بجميع ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا اختيار ابن تيمية وابن عثيمين رحم الله الجميع.
والأقرب : مذهب الجمهور : أن العبادات الواردة على صفات متعددة ، أن يلتزم الأفضل منها، والباقي فعله على سبيل الجواز، اللهم ما ورد فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً في كل منهما ، فيفعل الأول كثيراً ، والثاني كثيراً.
وهذا الاستثناء لا يعارض ما ذهب إليه الجمهور ، لكون قاعدتهم في ذلك من حيث الأصل لا ما خرج عن الأصل بدليل .
ومعرفة الأفضلية في تلك الأنواع المتعددة يعود لما دل الدليل أو القرينة على أفضليته، كذكر فضل له خاص، أو ما يستلزم فضله على غيره بأي نوع من أنواع التفضيل الشرعي.
٢ - لفظة :( كان ) عند الأصوليين لهم في دلالة معناها ثلاثة أقوال
نحو قولهم "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا"، فإنها ترد على ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون معناها للدوام والاستمرار، كما في قراءته ﷺ في صلاة الجمعة بـ "سبح والغاشية".وورد بالجمعة والمنافقين .
الثاني: أن يكون ورودها لتكرر الفعل كثيراً كقراءة السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة .
الثالث: أن تكون دلالتها للفعل مرة،واخدة وذلك في نحو ما يرد مرة أو مرتين.
وبكل واحد من هذه الاحتمالات قال به جمع من الأصوليين.
والأقرب : أنها تختلف بحسب المواضع وذلك تبعاً لاستقراء الأدلة الأخرى ، وبحسب ما يحتف بها من القرائن ، لأنها في اللغة تحتمل تلك المعاني قيرجع في نص ما يحتفي به من القرائن والأدلة الدالة على أحد تلك المعاني.
وبهذا يتبين الوجه الذي تكون له الأفضلية في فعل العبادة عليه أكثر من غيره، أما ما وردت له أوجه ثبت أنه فعلها صلى الله ﷺ على وجه الكثرة فله أن يفعل هذا حيناً، وهذا حيناً، ويلتزم فيما عدا ذلك ما ورد تكرره على وجه الكثرة لأفضليته بهذا الاعتبار مع جواز فعل المفضول .
وترتب على ذلك : أن جمع الأوجه الواردة في العبادة في موضع واحد هو خلاف السنة وخلاف الأولى.
من الأمثلة التي ذكرها المصنف:
الاستفتاح، فالمذهب أن الأفضل الاستفتاح بـ "سبحانك اللهم" مقتصرا عليه، وعلى ما سبق تقريره فله أن يستفتح بهذا حينا وبغيره حينا، إلا ما ترجح تفضيله بأدلة أخرى أو بثبوت تكرره عنه صلى ﷺ فيكون لزومه أغلب الوقت أفضل من غيره.
ومنها إجابة المؤذن هل يشرع فيها الجمع بين الحيعلة والحوقلة أو لا.
وكذا في التثويب في الفجر فيه وجهان.
——————————————————-
القاعدة الثالثة عشرة:
—————————
"إذا وجدنا أثراً معلولا لعلة، ووجدنا في محله علة صالحة له، ويمكن أن يكون الأثر معلولاً لغيرها، لكن لا يتحقق وجود غيرها، فهل يحال ذلك الأثر على تلك العلة المعلولة أم لا؟"
يمكن إيضاح هذه القاعدة بقاعدتين متقاربتين في المعنى والفروع التي تنتظمها:
————-
١ - القاعدة الأولى "إذا تعارض الأصل والظاهر قدم الظاهر".
ومن أدلة ذلك قوله ﷺ "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فلليبني عليه ثم ليسجد بعد أن يسلم".
٢ - القاعدة الثانية : "الاستدلال بالعلامة والحكم بما دلت عليه مقرر في الشرع والعقل"
ومن أدلة ذلك، أنه ﷺ كان يغير إذا طلع الفجر، فإن سمع أذاناً كف وإلا أغار ) كما في صحيح مسلم .
وهذا صريح في الاستدلال بعلامة الأذان والحكم بما دلت عليه من إسلام القوم.
والأصل فيمن لبس الزنار والصليب أن نحكم بانتسابه إلى النصرانية بعلامة الزنار والصليب. استناداً على العلامة في الظاهر ، ما لم يعلم إسلامه مع حرمة التشبه.
وينبغي أن يعلم أن في المسألة خلافا، وهذا سبب إيرادها بصيغة السؤال من المصنف، ولها صور كثيرة قد يقوى في بعضها الظهور فتصح الإحالة على تلك العلة، وقد يقوى في بعضها عدم صحة الإحالة على تلك العلة لضعف في السبب وخفاء ظهوره، ومن الضوابط في هذا "إذا طرأ الاحتمال بطل الاستدلال إذا كان الاحتمال راجحا أو مساويا"،
ومن القواعد المستندة إلى الموازنة بين الظاهر والأصل "إذا اجتمع حاظر ومبيح على وجه لا يمكن التمييز بينهما غلب جانب الحظر " .
وهذا في مثل البغل المتولد من الخيل والحمر الأهلية.
ومن الأمثلة التي أوردها المصنف ما يلي:
إذا وقع في الماء نجاسة ثم غاب عنه ثم وجده متغيرا، حكمنا بنجاسته لأن الظاهر أن التغير بسبب تلك النجاسة، والأصل عدم وجود مغير غيرها.
إذا استيقظ النائم بعد تفكر أو ملاعبة تقتضي خروج المذي ووجد بللاً، لم يتيقنه منياً، فلا غسل عليه، لأن الأصل عدم وجود غيره، إلا إذا وجد ظاهر فإنه يقدم على الأصل، كأن يذكر تفكراً في جماع قبل نومه .
إذا جرح صيدا جرحا غير موح، ثم غاب عنه ووجده ميتا ولا أثر فيه غير سهمه، فالأصح أنه يحل له أكله، لحديث عدي مرفوعا "إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل".
فإذا وجد ما يترجح به أحدهما على الآخر أخذ بالراجح لأنه الظاهر، فإن لم يترجح شيء رجعنا إلى الأصل.
إذا جرح آدميا معصوما جرحا غير موح، ثم مات وادعى أنه مات بسبب غير سراية الجرح، وأنكر الولي؛ فالقول قول الولي مع يمينه، إحالة للزهوق على الجرح المعلوم.
فالظاهر يقدم على الأصل.
ومنها جواز استيفاء الحق من الغريم إذا كان ثم سبب ظاهر يحال الأخذ عليه، كالزوجة تأخذ من مال زوجها نفقتها ونفقة ولدها بالمعروف خفية، ولا يجوز إذا كان السبب خفيا، لأنه بذلك ينسب إلى الخيانة على المذهب، والأقرب : جواز الأخذ من ماله عند وجود سببه ولو كان خفياً.
هذا والله أعلم.
15 ذو القعدة 1443هـ.
محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
كتبه عنه تلميذه : هنيدي بن يحى الزهراني .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق