حكم لزوم الهبة قبل القبض : -
الهبة في لغة العرب : مأخوذة من هبوب الريح ، أي مروره .
وفي الاصطلاح : هي التبرع بالمال في حال الحياة .
والهبة بعد قبضها لازمة ولا يجوز الرجوع فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ) ويستثنى من ذلك الأب - وكذا الأم قياساً عليه - يجوز لهما الرجوع في هبتهما لولدهما يعد قبض الموهوب لما رواه الخمسة وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ).
واختلف العلماء في كون القبض شرط للزوم العقد في حق غير الوالدين على قولين :
القول الأول : ذهب الظاهرية ، ورواية عن الإمام أحمد في غير المكيل والموزون إلى أن العقد يثبت بمجرد الهبة، ولا يفتقرإلى القبض من الموهوب .
١ - لقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ). والهبة عقد كسائر العقود تنعقد بلا شرط القبض .
والجواب : أن عقد الهبة يختص بشرط الإقباض لوجود الأدلة الدالة على ذلك - كما سيأتي - .
٢ - ولحديث ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ). وإذا وهب ثم رجع قبل أن يتم القبض ، رجع في هبته ، فيدخل في النهي الذي دلّ عليه هذا الحديث .
والجواب : أن مقتضى التشبيه في هذا الحديث أنه لا يكون عائداً في هبته إلا إذا خرجت عن يده، كما أن مثل السوء في عود الكلب في قيئه لا يتحقق إلا إذا خرج من جوفه.
٣ - القياس على سائر العقود حيث تنعقد بالعقد، فكذا عقد الهبة .
والجواب عنه - كما تقدم - بأن النصوص الآتية عند أصحاب القول الثاني دلت على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض ، فلا تعارض بين عام وخاص .
٤ - قياس الهبة على البيع بجامع أن كلاً منهما تمليك عين في حال الحياة ، فوجب لزوم الهبة بمجرد الإيجاب والقبول كالبيع.
والجواب : أنه لا عبرة بالقياس مع وجود النص .وهو ما يسمّى عند الأصوليين بالقياس فاسد الاعتبار، ففرق بين مصادمت القياس للنص ومعارضته له ، وبين تخصيص النص العام بالقياس .
القول الثاني : القبض شرط في لزوم عقد الهبة ، وهو قول الجمهور .
١ - لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ) ومقتضى التشبيه أن العود لا يكون إلا بعد انفصال الهبة عن الواهب وذلك بتقبيض الموهوب ، وقبل ذلك يكون في حيازة الواهب فله العود فيه .
٢ - قياساً على الوصية حيث إن الموصي يجوز أن يرجع في هبته قبل أن تخرج من ملكه بموته ،فكذا الهبة بجامع التبرع في كل .
والنص العام يخصص بالقياس.على القول الراجح من أقوال أهل العلم .
٣ - لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة ( إني قد أهديت إلى النجاشي حلة - بردة يمانية مكونة من ثوبين من جنس واحد- وأواقي مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات ، ولا أرى هديتي إلا مردودة علي، فإن ردت فهي لك...)
والجواب عنه : بأنه ضعيف، فيه مسلم بن خالد المخزومي : صدوق كثير الأوهام، وضعف الألباني الحديث في الإرواء .
٤ - بأن هذا هو المروي عن أبي بكر وعمر وعثمان، بل وحكي أجماع الصحابة على ذلك.
والجواب : أن قول الصحابة يستأنس به، ولا يحتج به على القول الراجح ، وأن الإجماع المحكي غير مسلم لمخالفة ابن مسعود في ذلك .
وبعد هذا العرض يتبين رجحان القول القائل بأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، لقوة أدلتهم وعدم دلالة بعضها أو ضعفه لا يستلزم عدم دلالة الأدلة الأخرى أو ضعفها، لأن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين .
والله تعالى أعلم .
كتبه / أبو نجم / محمد بن سعد الهليل العصيمي / كلية الشريعة / جامعة أم القرى/ مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق