حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء:
وصورتها: أن المصرف -البنك- يأتيه الرجل ويأمره أن يشتري له من المعرض سلعة على أن يشتريها منه بربح معلوم بعد أن يشتريها المصرف من المعرض. اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
الأول: لا تجوز؛ للأسباب التالية :
١- لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام: ( لا تبع ما ليس عندك ) وهذا من بيع الأعيان قبل حيازتها.
والجواب: أن بيع السلعة بعد تملكها من المصرف وحيازتها، ليس من بيع ما ليس عندك بل هو من بيع السلعة المملوكة له وتحت حيازته وتصرفه.
٢- ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلّاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). والعينة: بيع السلعة إلى أجل بثمن معين على أن يشتريها بأقل من ثمنها حالّاً. فإذا كانت العينة محرمة لأن المقصود منها بيع دراهم بدراهم وإنما اتخذت السلعة حيلة، فهي ربا جعل بينهما سلعة، فكذلك بيع المرابحة للآمر بالشراء ربا جعل بينهما سلعة، -كأن المصرف قال له: لا أقرضك ولكن اشتري لك سيارة بالمبلغ الذي تريد وأخذ على ذلك فائدة- وهذا عين الربا ولكن بحيلة.
والجواب عن ذلك: بأن العينة لاتكون عينة إلا إذا كان هناك شرط وإلا فلا: أبيعك هذه السلعة بمائة مؤجلة إلى سنة شريطة أن تبيعني إياها بثمانين حالّة.
بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما -أقل القيمتين- أو الربا) ولا تكون بيعتين في بيعة إلا بالشرط. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، فيدخل في ذلك بيع العينة عند وجود الشرط، فالبيع الأول في العينة شرط فيه البيع الثاني.
٣- ولأن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
وبيع المرابحة ذريعة إلى الربا، فيقصد الحصول على المال، وتتخذ السلعة وسيلة. والتحائل على المحرمات لا يزيدها إلا تحريماً. والجواب عن ذلك: أن المحرم إذا كان تحريمه من باب تحريم المقاصد فإن التحائل على تحليله لا يزيده إلا تحريماً، وإذا كان تحريمه من باب تحريم الوسائل، فترك الوسيلة المحرمة والأخذ بالوسيلة المباحة هو المتعين، كما في حديث أبي سعيد قال: (أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب-جيد- فقال: ( أكلّ تمر خيبر هكذا؟ فقالوا: لا والله يارسول الله، إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال ( أوّاهً عين الربا ردوه، ولكن بع الجمع -رديئاً- بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً) فنهاهم عن الطريقة المحرمة وبين لهم الوسيلة المباحة.
القول الثاني: أن عقد المرابحة للآمر بالشراء: جائزة مالم تحتوي على محذور شرعي. فهي جائزة؛ لأن الأصل في البيوع الحل.
بالشروط التالية :
١- أن لا يبيع المصرف السلعة وهي غير حاضرة عنده ولم تدخل في ملكه وحيازته وتصرفه لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تبع ما ليس عندك ).
٢- أن لا يبيع المصرف السلعة للزبون قبل أن ينقل المصرف السلعة من المعرض إلى مكان آخر لا يختص بالبائع -صاحب المعرض- لحديث زيد بن ثابت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم). وحديث ابن عمر: (كنّا نبيع الطعام جزافاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث إلينا من يأمرنا بنقله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه).
-وهذا في بيع العين، لا في الأمر بالشراء-.
٣- أن لا يربح فيه قبل أن يتمكن المشتري -المصرف- من القبض لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: ( لا يحل سلف في بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح مالا يضمن، ولا بيع ماليس عندك ). ولا يكون المشتري ضامناً إلا بالتمكن من القبض لحديث: (أرأيت إن حبس الله الثمرة عن أخيك بأي حق تستحل ماله) وحديث ابن عمر في صحيح البخاري: (مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً، فهو من مال المشتري) فيجمع بينهما بأن العبرة بالتمكن من القبض في الضمان.
-وهذا أيضاً في بيع عين معينة لا في الأمر بالشراء-.
٤- أن لا يكون بين البائع -المصرف- والعميل وعد ملزم ملزم بالشراء قبل تملك السعة. أو أخذ مال من العميل قبل تملك السلعة، أو شرط أخذ مال من العميل عند نكوله ورفضه إتمام العقد بعد تملك المصرف للسلعة. لأن هذا يدخل في بيع مالا يملك.
وكل شرط جزائي أو وعد ملزم يترتب عليه الوقوع في معاملة غير شرعية فهو لاغ ( كل شرط ليس في كتاب الله -لا بعمومه ولا بخصوصه- فهو باطل، وإن كان مائة شرط).
- وهذا شرط بالوعد بالبيع، فمن قال: بأن الوعد بالبيع يلزم الوفاء به، فالحكم في الأمر بالشراء، والوعد بالبيع سواء، ومن قال: لا يلزم -وهو الأظهر ، قياساً على الوعد بالهبة لا تلزم حتى يقبض، فرق بينهما.
- وعلى هذا فإن الذي يترجح في نظري والعلم عن الله تعالى هو القول الثاني بالشروط السابقة التي تختص بالآمر بالشراء، لما ذكر .
* فإن قيل: ألا يكون من شروط جواز عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء: أن لا يكون ذريعة للربا.
فالجواب: لا.
وذلك أننا قد فرقنا بين الذرائع والحيل في القواعد.
فالذريعة: الطريقة التي تكون في ذاتها جائزة،
وتفضي إلى المحرم. كسب آلهة المشركين.
فإذا غلب على الظن الوقوع بسببه في الحرام فهو حرام.
والحيل: استخدام وتقديم العمل الذي ظاهره الجواز، لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فهو مراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم، كالزواج بنية الطلاق.وشكاية من يخاف من شهادتهم ليبطلها.
فالوسيلة -في الحيل- محرمة، والمقصود لاغ ومحرم بخلاف الذرائع، الوسيلة في ذاتها جائزة، والمقصود محرم، فلما كانت مفضية إليه غالباً حرمت.
فإن قيل: في مسألتنا هذه المعنى: هو التوصل إلى الربا، والسلعة: حيلة، فحقيقتها بيع دراهم بدراهم متفاضلة، والسلعة حيلة للتوصل إلى ذلك، وقد ورد عن ابن عباس أنه قال: دراهم بدراهم جعلوا بينهما حريرة -أي ثوباً-.
والقاعدة: إذا تعارض اللفظ والمعنى، قدم المعنى إذا ظهر، وإن لم يظهر فإتباع اللفظ أولى .- كما تقدم في القواعد .
والجواب: نعم هذا صحيح، ولكن الدليل وهو حديث أبي سعيد: جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب- جيد - فقال :( أكل تمر خيبر هكذا، قالوا : لا والله يارسول الله، إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة ، فقال ( أوّاه عين الربا ، ولكن بع الجمع - التمر الرديء- بالدراهم، وأشتر بالدراهم جنيباً)
فهذا يدل على أن المعنى وهو التفاضل بين المالين الذين يجري بينهما الربا إذا كان بالطريقة الشرعية فلا بأس به، ولو كان المقصود هو حصول التفاضل بينهما.
فالتفاضل يصح بالطريقة المشروعة لا بغيرها، فما كان حلالاً بطريق، وحراماً بطريق آخر، حل بالطريق المشروع، وحرم بالطريق الممنوع.
الله تعالى أعلم.
كتبه / محمد بن سعد العصيمي /عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق