حكم العقود الصورية :
الفرق بين الحيل والتزوير :
قاعدة : كل مصلحة راجحة لا يمكن التوصل لها إلا بالإخبار عنها بخلاف الواقع، لا تعتبر كذباً شرعاً.
——-
وهي إجراء عقد في الظاهر، ويقصد غيره في الباطن .
كأن يهب في الظاهر ، ويقصد البيع في الباطن من أجل الابتعاد عن الضرائب، أو يطلق في الظاهر ،وهو لا يريده، وإنما من أجل أن يتزوج بالزوجة الثانية عند الأقليات المسلمة التي تمنع الدول التي يعيشون بها من التعدد ، أو الزواج بالمواطنة من أجل البقاء والتجارة في البلاد التي لا يتمكنون من البقاء فيها إلا بهذه الطريقة ، أو الزواج من أجل الحصول على القرض فقط ، وكم يسبل أرضاً محياة على أن تكون مقبرة من أجل أن ينجو من الإزالة ، ونحو ذلك كثير .
@ ويتضح ذلك في النقاط التالية :
١ - إذا كان الحامل لهذا العقد الصوري ، هو مجرد الهزل واللعب، فيكون هذا من التلاعب بأحكام الله تعالى ، ولا يجوز ذلك .
وفي حديث محمود بن لبيد ( أيلعب بكتاب الله تعالى وأنا بين أظهركم ).
وفي الحديث ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق ، والعتاق، والنكاح )
والهزل : هو الذي يطلق اللفظ ويريد لفظه ومعناه على سبيل الهزل لا الجد .
فهذا يقع في هذه الثلاث : الطلاق والعتاق والنكاح، ويكون في غيرها غير واقع مع حرمة هذا الفعل.
مع العلم أن العقد الصوري في الأعم الأغلب، لا يقصد به الهزل، وإنما لما يترتب على فعله تحقيق مصلحة لمن فعله، أو درء مفسدة عنه .
٢ - إذا كان المقصود به تحقيق مصلحة راجحة أو دفع مظلمة ، فهذا من حيث الحكم التكليفي لا بأس به، وأشبه ذلك عقد التلجئة : وهي إبرام العقد من أجل السمعة لا الحقيقة .
وأصله في البيع : إجراء البيع ظاهراً ولم يقصداه ، للنجاة من ظلم الظالم .
والقاعدة : كل مقصود صحيح لا يمكن التوصل له إلا بالأخبار عنه بخلاف الواقع لا يعتبر محرماً- وقد سبق شرحها في القواعد .
وهو أقرب ما يكون من باب الإكراه: إذا كان الضرر الواقع عليك أعظم من الضرر الصادر منك .
وأما إذا لم يترتب عليه مصلحة راجحة ولا دفعاً لمفسدة ، فلا يجوز .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( .... أن الاسـتهزاء بــدين االله مـن الكبـائر، والاســتهزاء هــو الســخرية، وهــو حمــل الأقــوال والأفعــال علــى الهــزل واللعــب لا علــى الجــد والحقيقــة... فمــن تكلــم بــالأقوال الــتي جعــل الشــارع لهــا حقــائق ومقاصــد... وهو لا يريد حقائقها المقومة لها، ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفـاظ محصــلة لهــا... فهــو مســتهزئ بآيــات االله... فــإذا كــان الاســتهزاء حرامــاً وجب إبطاله، وإبطال التصرفات عدم ترتب آثارها عليهـا... فـإذا كـان المسـتهزئ
غرضه اللعب دون لزوم حكمها وجب إبطال لعبه بإلزامه أحكامه". فالطلاق شـرع لقصـد عقـد الزوجيـة وتحـريم البضـع بعـد اسـتحلاله، فإذا قصد به المطلق إبقاء عقد الزوجية وتحقيـق مقاصـد ماليـة وغايـات دنيويـة فقــد صــرفه عــن مقصــوده لأغــراض نفعيــة، فيلــزم إبطــال قصــده وإلزامــه بحكــم
الطلاق وآثاره صيانة له عن اللهو والعبث ).
٣ - إذا كان المقصود هو التوصل بالمشروع إلى غير ما هو مشروع، فهذا لا يجوز ، ويسمى بالحيل .
كأن يقصد بالطلاق الصوري إسقاط النفقة والنسب ونحو ذلك ، فلا يمكن أن يتخذ المشروع لإسقاط ما أوجب الله تعالى عليه، أو الوصول به إلى المحرم .
٤ - أن لا يكون العقد الصوري تزويراً في الشرع .
والتزوير : تمويه الباطل بما يوهم انه حق .
كمن أوهم أن المرأة الأجنبية أنها زوجته .
وأما تمويه الحق بما يوهم أنه حق ، لا يعتبر تزويراً في الشرع . كتمويه الزوجة الاجنبية على أنها زوجته غير الأجنبية .
وفرق بين تمويه الحق بالحق، وتمويه الباطل بالحق.
وذلك لأن النصوص دلت على مشروعية الإخبار فيه بخلاف الواقع للمصلحة الراجحة، فلا يعتبر كذباً شرعاً.
وليس كل كذب لغة يعتبر كذباً شرعاً .
فالرجل يحلف على غلبة ظنه في شيء يتبين خلافه، لا يعتبر كذباً في الشرع وإن اعتبر في اللغة كذباً لكونه لم يطابق الواقع. فكذا النصوص دلت على مشروعية الأخبار بخلاف الواقع تخقيقًا للمصلحة الراجحة فيه.
وكما يكون ذلك بالقول يكون أيضاً بالفعل التي هي المحاكاة .
وفي صحيح البخاري مرفوعاً( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً وينمي خيراً) وهذا يطرد فيما يقصد به المصلحة الراجحة منه.- وقد سبق بيانه في القواعد وفي حكم المثيل -.
فالكذب للحاجة إليه لتحقيق مقصود محمود صحيح شرعاً، لا يعتبر كذباً شرعاً، كما أشار إلى ذلك النووي عن الغزالي.
قال النووي –رحمه االله- عن الكذب )
(وأحسن ما رأيته في ضبطه ما ذكره الإمام أبوحامد الغزالي فقال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه.. وكذلك لو كان مقصود حرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذب ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرض إلا بالكذب، والاحتياط في هذاكله أن يوري..).
فالقاعدة : كل مقصود صحيح لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب - أو امكن التوصل له بغير الكذب ولكن مصلحة الكذب فيه راجحة- فإنه لا يعتبر كذباً شرعاً.
قال أبو حامد الغزالي –رحمه االله- في الكذب المباح)(: "وكذلك كل ما
ارتبط به غرض مقصود صحيح له أو لغيره... وينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضرراً فله الكذب، وإن كان عكسه أو شك حرم عليه الكذب... ومتى جاز الكذب فإن كان المبيح غرضاً يتعلق بنفسه فيستحب أن لا يكذب، ومتى كان متعلقاً بغيره لم تجز المسامحة بحق غيره، والحزم تركه في كل موضع
أبيح إلا إذاكان واجباً)- وقد بينا ذلك بأدلته في القواعد-.
٥ - أن إجراء العقود الصورية بلا مصلحة راجحة، أو دفعاً لمفسدة ، لا يجوز ، لقوله تعالى ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا)
وقال تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ومن ذلك الصدق في العقود بلا تحايل ولا كذب .
٦ - العقود الصورية من حيث الحكم الوضعي إذا كانت من باب الإنشاء ، ولم يفقد العقل والاختيار في إمضاء العقد أو منعه فإنه يصح العقد وتنبني عليه أحكامه .
وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا طلاق في إغلاق) فمن فقد عقله أو اختياره في وقوع العقد الصوري لم يقع، وكذا إذا كان مكرهاً بحيث يكون الضرر الواقع عليه أعظم من الضرر الصادر منه فهو معذور .
لقوله تعالى :( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ).
٧ - وإذا كان العقد الصوري من باب الخبر لا الإنشاء - ففرق بين طالق إنشاء،
وطلقت زوجتي من باب الخبر -
فإذا أخبر بإجراء عقد صوري وهو كاذب، هل يقع في غير الطلاق والعتاق والنكاح ،
لا يقع في الباطن عند الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية ، وإن وقع في الظاهر ، وهو الأقرب خلافاًللحنابلة الذين يقع عندهم في الظاهر والباطن .
ففي الخبر الكاذب لا يقع العقد ، وإنما يستحق الإثم إلا إذا كانت مصلحة الإخبار بخلاف الواقع راجحة كما سبق .
وفرق بين الهزل والكذب، فالهازل قصد اللفظ والمعنى - إنشاء- على سبيل الهزل لا على سبيل الجد والحقيقة .
وقيل : الهزل يقصد اللفظ لا المعنى ، والأول أرجح .
والكاذب : خبر يحتمل الصدق والكذب .
ولم يحصل منه الإنشاء، والفرق بين الإنشاء والخبر كبير ، ولهذا لا يقاس الخبر على الإنشاء، وقياسه عليه فاسد .
والإنشاء : هو الذي لا يحتمل الصدق والكذب كالاستفهام .
والخبر : ما يحتمل الصدق والكذب لذاته .
٨ - قاعدة : المكتوب ينزل منزلة المقول .
لحديث ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ). ومن كتب فقد عمل، وتجاوز ما في صدره إلى خارجه .
ولحديث ( ما حق امري مسلم له شيء يوصي فيه ييبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ). فهذا يدل على اعتبار الكتابة كاعتبار القول .
- [ ] والخلاصة :
- [ ] أن العقود الصورية لمصلحة راجحة أو درء مفسدة راجحة جائزة ، ولا تجوز في حال عدم وجود المصلحة الراجحة ، أو درء المفسدة الراجحة .- هذا من حيث الحكم التكليفي -.
- [ ]
- [ ] وهي تقع في باب الإنشاء إذا وقعت في حال الاختيار ولم تصل إلى حد الإكراه ، ولا تقع في حال فقد الاختيار والإرادة ،
- [ ] وأما في باب الخبر الكاذب، فلا تقع -في الحكم الوضعي - في الباطن، وتجرى في الظاهر على ظاهرها إلا من يعلم عدم صدقها.والله تعالى أعلم .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصبمي / كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق