حكم حرق جثة الكافر :
حكم التمثيل بالقتلى :
————
يطلب أحياناً قرابة الكافر حرق جثة قريبهم الكافر وعدم إرساله لهم في التابوت إذا كان موته في بلاد بعيدة ، فهل يجوز للمسلم أن يفعل ذلك به .
———-
يجوز إحراق جثة الكافر للمصلحة، وذلك للأسباب التالية :
١ - لقوله تعالى :( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ )
فإذا جاز قطع النخيل ونحوها مما قد يؤل لمصلحة المسلمين من المال إلا أن التحريق لها لمصلحة أكبر مما فيه إغاضة لهم ونكال بهم أعظم مصلحة ، فجواز إحراق جثة الكافر لمصلحة عدم كلفة المسلم بنقل جثمانه من باب أولى .
٢ - ولأن الكافر لا حرمة له ميتاً، ( ومن يهن الله فما له من مكرم ).
٣ - ولحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ : لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ)
والنتن يجوز إحراقه، والنهي عن الإحراق بالنار لمن كان حياً فيه روح ، لا من لا روح فيه.
٤ - فإن قيل : إن الإحراق لجثة الكافر أعظم من التمثيل ، والتمثيل منهي عنه شرعاً، وفي
حديث بريدة رضي الله عنه قال قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا ...) رواه مسلم .
فالجواب:
١ - أن التمثيل والمثلة : هي تقطيع أطراف الحي أو الميت أو تشويه خلقته. وأما إتلافه من غير تشويه فلا بأس به ، فإحراقه وتركه مشوهاً بالنار مثلة، وإحراقه حتى يكون رماداً ليس بمثلة .
قال ابنُ الأثير رحمه الله تعالى :
" يقال : مَثَلْتُ بالحيوان أمْثُل به مَثْلاً ، إذا قطعت أطرافه وشوّهت به ، ومَثَلْت بالقَتيل ، إذا جَدَعْت ( أي قطعت ) أنفه ، أو أذنه ، أو مذاكيره ، أو شيئاً من أطرافه . والاسم : المُثْلة . فأمَّا مَثَّل ، بالتشديد ، فهو للمبالَغة "
٢ - ولما أخرجه أحمد و البخاري و أبو داود و الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" بعثنا رسول الله في بعث، فقال : إن وجدتم فلاناً و فلاناً لرجلين فأحرقوهما بالنار، ثم قال حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله ، فإن وجدتموهما فاقتلوهما" ، و في بعض ألفاظ الحديث : " وإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله" .
وهذا يدل على عدم حرقهما لعلة وهي : كون الإحراق مما يختص بالله تعالى في تعذيبه لخلقه، وليست العلة من النهي كونه من التمثيل ،
٣ - أن النهي عن المثلة إنما إذا كان مجرداً عن المصلحة ، وأما إذا كانت هناك مصلحة راجحة فلا بأس، كأن يمثلوا بموتانا أو يكون أقوى في إغاضتهم وإرعابهم .
والقاعدة : المعاقبة بالمثل مشروعة ما لم تكن محرمة لحق الله تعالى .
٤ - ومما يدل على أنه ليس محرم لحق الله تعالى ، قصة العرنيين الذين سملوا عيني الراعي وتركوه يهيم في الصحراء حتى مات، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم وسمل أعينهم وتركهم يهيمون في الصحراء حتى ماتوا).
وكذا رض رأس يهودي رض رأس جارية بين حجرين .
٥ - أن النهي عن المثلة بجثث الكفرة هل هي للتحريم أو الكراهة .
لقوله تعالى ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ..).
قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآيةِ : " " فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْب " أَيْ تَغْلِبهُمْ وَتَظْفَر بِهِمْ فِي حَرْب " فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ " أَيْ نَكِّلْ بِهِمْ . قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَابْن عُيَيْنَةَ وَمَعْنَاهُ غَلِّظْ عُقُوبَتهمْ وَأَثْخِنْهُمْ قَتْلًا لِيَخَافَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَعْدَاء مِنْ الْعَرَب وَغَيْرهمْ وَيَصِيرُوا لَهُمْ عِبْرَة " لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ " .ا.هـ.
٦ - وقياساً على الكي هو قياس ظاهر، إذ كلٌ منهما فيه تعذيب بعذاب الله وهو النار، ويفترقان في كون التحريق لمصلحة التنكيل بالكفار والكي يكون لمصلحة العلاج ، ولعل هذا ما فهمه من صح عنه التمثيل في القتل من أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم، كعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما. وهذه قرينة تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة ،
وقد حكى القاضي والصنعاني وغيرهما : الإجماع على تحريم التمثيل، ولا يصح هذا الإجماع لثبوت المخالف.
٧ - ولأن الحق في عدم التمثيل لحق المخلوق لا لحق الخالق ، بدليل جواز التمثيل بهم إذا مثلوا بنا ، وبما أن الكافر لا حق لهم ولا حرمة ولا كرامة، مما يجعل النهي عن تمثيلهم للتنزيه لا للتحريم ، فيكون ذلك النهي من باب الآداب وتهذيب السلوك ، فيكون النهي للكراهة لا التحريم.
فقد روى الترمذي وقال : " حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ " ، وأحمد من زوائدِ عبد الله ، وأوردهُ الشيخُ مقبل الوادعي في " الصحيحِ المسندِ من أسبابِ النزول " عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا ، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ فِيهِمْ : حَمْزَةُ ؛ فَمَثَّلُوا بِهِمْ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : " لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ ، قَالَ : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ " فَقَالَ رَجُلٌ : " لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ " ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً " .
وبهذا يترجح في نظري والعلم عند الله تعالى : رجحان جواز حرق جثة الكافر لمصلحة راجحة، والله تعالى أعلم .
كتبه / د. محمد بن سعدالهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق