المحاضرة الثامنة: فقه المعاملات المالية المعاصرة // لفضيلة الشيخ د. محمد بن سعد الهليل العصيمي -حفظه الله-.

المحاضرة الثامنة في فقه المعاملات المالية المعاصرة

(الاستصناع و القرض).

————

بسم الله الرحمن الرحيم

اما بعد؛

الاستصناع في لغة العرب: هو من طلب الصنع.

الاستصناع في الاصطلاح: هو عقد على مبيع في الذمة شُرِط فيه العمل.

ويمكن أن يقال: بأنه تقديم الثمن و تأخير المثمن في الذمة شرط فيه عمل.

فمثلاً عندما يأتي الإنسان يريد أن يبني عمارة فيقول أدفع لك مبلغ العمارة كاملاً مليون ريال على أن تنشيء لي عمارة بصفات منضبطة إلى أجل محدد.

هذا يقدم الثمن في مجلس العقد ويؤخر المثمن الذي شرط فيه العمل.

و مثلاً عندما اذهب إلى صاحب الكنب أقول خذ ٥٠٠٠ الآف ريال بشرط أن تصنع لي مثل هذا الكنب وتسلمه لي بعد شهر.

هل الاستصناع نوع من أنواع السلم؟

جمهور أهل العلم يعتبرونه نوعاً من السلم لكن شرط فيه عمل.

عندما اذهب إلى شركة السيارات ادفع لهم مبلغاً كاملاً في مجلس العقد واتفق معهم على أن يصنعوا لي سيارة (يارس) صفاتها كذا وكذا وتسلم لي بعد سنه، هذا ايضاً يسمى استصناع.

مذهب المالكية والشافعيه كلهم يعتبرونه نوعاً من أنواع السلم؛ لأن فيه تقديم ثمن وتأخير مثمن في الذمة في مجلس العقد.

الفرق بينه وبين السلم: الاستصناع شبيه بالسلم من حيث أن السلعة مؤجلة التسليم ولكن يختص الاستصناع بوجود صناعة فيه.

كما يختص بجواز تأخير الثمن عند الحنفيه خلاف الجمهور، ويشترطون أن يكون الثمن كاملاً في مجلس العقد؛ لأنه نوع من أنواع السلم.

 إذاً: الذين يعتبرون أن الاستصناع نوع من أنواع السلم يشترطون تقديم الثمن كاملًا في مجلس العقد، ويشترطون أن تكون الصفات منضبطة، وأن يكون الأجل -إذا كان هناك أجل- محدداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم).

الفرق بين السلم  وبين الإجارة: 

في الاستصناع يوجد عين  -مواد- يقدمها الصانع ويوجد عمل، بينما الأجير في الإجارة لا يقدم سوى العمل، يعني عندما أنا آتيك بجميع المواد وأقول اعمل لي كذا وكذا هذه تعتبر إجارة، لكن عندما أعطيك في مجلس العقد وأؤخر الثمن وأطلب تصنع لي شيئًا معيناً ولا أقدم له الثمن في مجلس العقد هذا يسمى إيجاراً، إذا كان العامل يأتي بمواد المثمن فهذا يسمى استصناع وإذا كان لا يأتي بموادها وإنما الذي أتى به رب العمل فهذا يسمى إيجاراً.

باختصار الفرق بين الاستصناع والإجارة:

إذا كانت المواد يأتي بها المستأجر فهو استصناع.

أما إذا كان يأتي بها المؤجر فهي إجارة.

———

*حكم الاستصناع:

هناك صورتان للاستصناع:

الصورة الأولى: إذا تم تسليم الثمن في مجلس العقد فهذا يتطابق مع ما يشترط في السلم ولا إشكال فيه.

الصورة الثانية: إذا كان الثمن أو بعضه مؤجلاً فهنا وقع الخلاف على قولين:

القول الأول: لا يصح الاستصناع إلا بشروط السلم ومنها قبض الثمن كاملاً في مجلس العقد وهو قول الجمهور.

 واستدلوا بأدلة من أهمها: 

إن تأخير الثمن مع كون المبيع -المستصنع- مؤجلاً يدخل المعاملة في النهي الوارد عن بيع الكاليء بالكاليء.

ونوقش استدلالهم هذا بأمور:

١- أن العلماء ذهبوا إلى إباحة عدة صور من بيع الكاليء بالكاليء، فليس كل ما دخل تحت الكاليء بالكاليء هو بالضرورة محرم، وقد سبق وبينا أن بيع الكاليء بالكاليء وهو 

المؤخر الذي لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض،  يحرم بالإجماع في حالتين:

*اذا كان من الأموال التي يجري فيها الربا.

*وإذا كان رأس مال لسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم  إلى أجل معلوم) .

٢- أن الاستصناع فيه شبه بالإجارة وفيها يجوز تأجيل الثمن وتأجيل استيفاء المنافع.

والجواب: أن هناك فرق بين الإجارة وبين الاستصناع كما بينا سابقاً.

٣- أن الغرر في تأجيل الثمن والمستصنع قد يكون مغتفراً لشدة الحاجة لهذا العقد، لا سيما أن ضبط المستصنع بالوصف الدقيق يقلل الغرر فيعتبر من اليسير المغتفر.

والجواب: أن نقول أنه لا عبرة بالاجتهاد في مقابلة النص.

والقاعدة: كل اجتهاد يعود على النص بالإبطال فهو باطل.

وكون الانسان يستثني شيئاً من شروطه بلا دليل هذا يعارض الدليل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم).

القول الثاني: يصح الاستصناع ولو أخر الثمن أو بعضه بشرط أن يعلم المستصنع وتبين صفاته كما قلنا في السلم وهذا قول الحنفية.

واستدلوا بأنه موجود من القدم بين المسلمين فدل ذلك على أنه صحيح والأصل في المعاملات الحل لا سيما وهذا العقد يحتاج الناس إليه حاجة ماسة؛ أما كونه قديم فلا يعني قدم الشيء حله قد يكون قديمًا حلالاً وقد يكون قديمًا حراماً.

 وأما الأصل في المعاملة الحل فنعم ولكن هذا أضعف الأدلة ما لم يوجد دليل يدل على خلافه؛ و إذا كان هناك ضرورة فإن الضرورة تقيد بشرطين:

الشرط الأول: أن لايوجد غيره يقوم مقامه.      الشرط الثاني: أن يتيقن بأن هذا الشي تزول به الضرورة.

والقاعدة: إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة إذا كانت شديدة، أو دل الدليل عليها، أو كانت في معنى ما دل الدليل عليه أو أولى مما دل الدليل عليه وما لا فلا.

-وقد سبقت في القواعد -.

إن عقد الاستصناع من العقود التي وجدت منذ القدم، وقد جاء النص فيها بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في شيء فليسلف في  كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم).

وقد حكى إن تيميه رحمه الله الإجماع على اشتراط تسليم الثمن كاملاً في مجلس العقد في السلم، و من قال بأن شرط العمل يخرجه عن السلم فيحتاج إلى دليل لأنه وصف غير مناسب والوصف غير المناسب لايعلل به في الاحكام الشرعية كما هو مقرر في الأصول.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم استصنع  خاتماً من ورق لا يدل على إسقاط شرط  تسليم الثمن في مجلس العقد فهو محمول على الاستصناع الشرعي لا غيره؛ لأن الأصل في العقود أن تكون على الوجه الشرعي وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية والحنابلة؛ أي مذهب الجمهور خلافاً للحنفية.

—————-

عقود التوريد:

عقود التوريد: هي عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعة معلومة مؤجلة بصفة دورية خلال فترة معينة لطرف آخر مقابل مبلغ معين مؤجل كله أو بعضه.

مثل: اذا اتفقت أنا وشخص -مندوب اسطبل خيول- على توريد أعلاف للاسطبل بالآجل علماً بأني لا أملك تلك الأعلاف ولكن عند طلبي يتجه للسوق لشراء تلك الأعلاف المطلوبة حسب السعر المتفق عليه ويستوفي ثمنه بعد توريده.

إذا كان عقد التوريد لا يتضمن غرراً ككون السلعة غير منضبطة بالصفة، ولا يتضمن جهالة؛ كونه مجهولا، ولا يتضمن بيع ماليس عندك على أن يتم الاتفاق أن يشتري له ما ليس عنده ثم يوفرها له وإن كانت السلعة معينه فقد باع ماليس عنده، وإن كانت السلعة غير معينة فقد باع موصوفاً لم يتوفر فيه شروط السلم؛ كما سبق في مسألة: العلة في الجمع بين سلف وبيع.

وإنما لم يجز بالمواطأة والحيلة فقد أخذنا بالمعنى المقصود بالعقد: أن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.

 ولهذا ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية إلى جواز اجتماع السلف والبيع بلا شرط أي لايتم اشتراط البيع إلا بالسلف.

لحديث: (نهى عن سلف وبيع).

والواو تقتضي المعية فإذا لم يكن شرط لم يكن  سلف وبيع، فيشتري منهم بالآجل حتى لا يطالب بالثمن في الحال، فيكون قرضاً جر نفعاً، وذلك أخذاً بالمعنى في النهي عن الجمع بين السلف والبيع.

 والجواب: أنه يحرم لأنه أدى الى الربا وهو كونه قرضاً جر نفعاً فإذا أدى الى الربا حرم بشرط أو بدون شرط وعلى هذا فإن القول الراجح أن السلف والبيع بعقد واحد بشرط أو مواطأة أو حيلة لا يجوز.

فمع الشرط أو المواطأة أو الحيلة حرام و هو قول عند بعض المالكية وقولاً عند الحنابلة وقول شيخ الإسلام ابن تيمية وإن وجد الشرط فلما تقدم كان ذلك بالمواطأة والحيلة حرم لأن المقصود هو الربا بهذه الطريقة وهي الزيادة في مقابلة القرض والعبرة بالمعاني كما سبق خلافاً للحنابلة عدم جواز اجتماع السلف والبيع مطلقاً؛ لظاهر النص.

والجواب: أنه إذا تعارض اللفظ والمعنى قدم المعنى إذا ظهر، وإن لم يظهر فاتباع اللفظ أولى.

ولهذا لا تظهر المواطأة بالتوريد في عقود الاستصناع وهو العقد الذي يتضمن سلعة تتضمن صناعة موصوفة في الذمة يلتزم بتسليمها في الأجل المحدد.

 وعلى هذا يجوز عقد التوريد بالشروط السابقة وأما إذا كان المورد يشتري لمن ورد له السلعة لا لنفسه ويأخذ على ذلك أجرة فهذه أجرة لاحرج فيها.

فإذا كان عقد التوريد لا يتضمن الغرر ولا الجهالة ولا بيع ماليس عندك إذا كانت السلعة معينة، وأما إذا كانت موصوفة في الذمة لا بد من تسليم الثمن كاملاً في مجلس العقد، مع تحديد الصفات المنضبطة والأجل المحدد، ولم يكن هناك اتفاق على الربا فإن هذا لا بأس به.

——————

القرض:

في اللغة: من القطع.

في الاصطلاح: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله.

وهو عقد إرفاق لا معاوضة.

 والفرق  بين عقود المعاوضة وعقود الإرفاق لو كانت معارضة لا يجوز القرض ولو كان من عقود الإحسان والإرفاق كان جائزاً.

مشروعية القرض:

روى أبو رافع رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعيا ً فقال: أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء).

دل الحديث على أن الإنسان يجوز أن يرد أفضل مما استقرض بدون شرط أما اذا كان بشرط يعتبر ربا.

—————

الحكم التكليفي للقرض:

لا خلاف بين الفقهاء في أن الأصل في القرض في حق المقرض أنه قربة من القرب لما فيه من إيصال النفع للمقترض وقضاء حاجته وتفريج كربته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

ولا يعتبر القرض من المسألة المذمومة.

والقاعدة: كل ماجرت العادة بسؤاله لا يدخل في المسألة المذمومة.

لأن الأصل في مسألة الناس الذم والنهي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لابد له منه)، والنبي صلى الله عليه وسلم اقترض، ومات ودرعه مرهونه عند يهودي، واستسلف بكراً ورد خياره رباعياً.

لكن القرض قد يعرض له ما يجعله واجباً،  أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً؛ بحسب ما يلابسه أو يفضي إليه.

والقاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد.

 وعلى ذلك فإن كان المقترض مضطراً والمقرض مليئا، كان إقراضه واجبًا إذا ترتب على عدم إقراضه هلكه.

 وإن علم المقرض أو غلب على ظنه أن المقترض يصرفه في معصية؛ كان حراماً.

أما في حق المقترض فالأصل فيه الإباحة وذلك لمن علم من نفسه الوفاء بأن كان له مال مرتجى وعزم على الوفاء منه.

والصحيح أن نقول أنه يجوز له أن يقترض ما لم ينوِ عدم السداد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ حقوق الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى).

 ———

شرط صحة القرض: أن يكون معلوماً.

فلا خلاف بين الفقهاء في اشتراط معلومية محل القرض لصحة العقد، وذلك ليتمكن المقترض من رد البدل المماثل للمقرض وهذه المعلومية تتناول أمرين:

١- معرفة القدر.               ٢- معرفة الوصف.

———-

مسألة: اشتراط الزيادة للمقرض:

لا خلاف بين الفقهاء في أن اشتراط الزيادة في بدل القرض للمقرض مفسد لعقد القرض سواء أكانت الزيادة في القدر -بأن يرد المقترض أكثر مما أخذ من جنسه- أو بأن يزيده هدية من مال آخر أو كانت في الصفة -بأن يرد المقترض أجود مما أخذ وأن هذه الزيادة تعد من قبيل الربا-.

اجمع العلماء على أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.

لأن موضوع عقد القرض الإرفاق والقربة فإذا شرط المقرض فيه الزيادة لنفسه خرج عن موضوعه فمنع صحته؛ لأنه يكون بذلك قرضاً للزيادة لا للإرفاق والقربة، ولأن الزيادة المشروطة من صور الربا.

————-

مسألة: حكم الهدية للمقرض:

القاعدة: من أهدي له بسبب، يثبت بثبوته ويزول بزواله.

فإذا أهدى لمقرضه هدية قبل الوفاء ولم ينوِ المقرض احتسابها من دينه أو مكافأته عليها لم يجز إلا إذا جرت عادة بينهما بذلك قبل القرض فإن كانت جارية به جاز، أما إذا أهداه بعد الوفاء بلا شرط أو مواطأة فهو جائز في الأصح لأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضاً في القرض ولا وسيلة إليه ولا إلى استيفاء دينه فأشبه ما لو لم يكن هناك قرض.

—————

مسألة: إذا شرط في عقد القرض أن يبيعه المقرض شيئاً أو يشتري منه أو يؤجره أو يستأجر منه ونحو ذلك:

يحرم ذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع).

والله تعالى أعلم.

كتابة الطالبة: أثير علي المالكي.     

تفريغاً من محاضرة فضيلة السخ الدكتور: محمد سعد العصيمي -حفظه الله-.