حكم قطع النافلة إذا أقيم للمكتوبة:
وقفات أصولية فقهية مع حديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).
——————
الخلاصة: يكره أن يشرع في النافلة بعد إقامة الصلاة للمكتوبة، لما فيه بالانشغال عن الفاضل بالمفضول، إلا إذا ترتب على ذلك ترك الجماعة.
ويجوز لمن أقيمت الصلاة للمفروضة وهو في النافلة أن يقطعها - (الصائم المتطوع أمير نفسه) (ولا تبطلوا أعمالكم) أو يتمها ما لم يترتب على ذلك ترك الجماعة، وترجيح الإتمام من عدمه يرجع إلى مراعاة المصالح التي يترتب عليها الثواب، وذلك أن الكراهة تزول عند حصول المصلحة الراجحة، فمن يحافظ على تكبيرة الإحرام أفضل في حقه والحالة تلك القطع، وهكذا).
———————————-
أ- روى الشيخان عن عبد الله بن مالك ابن بحينة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلصبحَ أربعاً؟، آلصبحَ أربعاً؟»
وهذا الانكار لأنه تمادى في الصلاة ولم يقطعها بعد أن سمع الاقامة.
لأنه إذا أتم الركعتين ثم دخل مع الإمام يكون صلى الصبح أربع ركعات.
وهذا الإنكار يحتمل التحريم أو الكراهة، والكراهة أقرب لما فيه بالانشغال عن الصلاة المكتوبة، ففيه الانشغال بالمفضول عن الفاضل، وهو محمول على الكراهة ما لم يترتب عليه فوات الجماعة، ولا فرق بين الانشغال عن المكتوبة قبل الإقامة وبعدها.
ويحتمل أنه بدأ النافلة بعد إقامة الصلاة، ويحتمل يتنفل وأقيمت الصلاة بعد أن شرع في النافلة، والأول أقرب جمعاً بين النصوص، ولأن قوله صلى الله عليه وسلم (أربعاً) الأصل فيها الكمال ولا يتأتى ذلك إلا بشروعه في النافلة بعد الإقامة.
ب- عن عبد الله بن سرجس -رضي الله عنه- قال: دخل رجل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا فلان بأي الصلاتين اعتددت، أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟».
ففيه دليل على أنه لا يصلي بعد الإقامة نافلة، وهذا لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في إتمام النافلة بعد الإقامة، ففرق بين الشروع في النافلة، وبين إتمامها.
ج - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أقيمت الصلاة ولم أكن صليت الركعتين يعني صلاة الصبح وركعتي الفجر، قال ابن عباس: فقمت لأصليهما فجبذني وقال: أتريد أن تصلي الصبح أربعًا؟ قيل لأبي عامر: النبي صلى الله عليه وسلم فتل ابن عباس؟ قال: نعم؟).
وهذا واضح في كون النافلة بعد إقامة الصلاة، فلا يشرع بعد الإقامة بالنافلة.
د- روى مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال؛ (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).
١- الحديث يحتمل نفي الكمال أو المراد به النهي.
فيكون المعنى: لا صلاة كاملة حينئذ إلا المكتوبة أو لا تصلوا إلا المكتوبة.
والمعنى الأول أرجح، لأنه ظاهر اللفظ.
ويحتمل أنه نفي بمعنى النهي، وهو أبلغ من النهي المجرد -كما سبق تقريره في القواعد-.
٢- أن صلاة غير المكتوبة حينئذ منعقدة؛ لأن الكراهة تنزيهية لا لذات الصلاة بل لأمر خارج عنها.
لأن النهي الذي الذي لا يتعلق بذات العبادة، وإنما لأمر خارج عنها، لا يبطلها إلا بدليل.
والقاعدة: أن النهي إذا كان لا يختص بذات العبادة لا يبطلها -وقد سبق تقريره في القواعد-.
والنهي هنا من أجل تفويت فضيلة تكبيرة الإحرام وغيرها مع الإمام: وذلك أنَّ ما يفوتُه معَ الإمامِ أفضلُ ممَّا يأتي به، فلمْ يَشتغِلْ به، كما لو خاف فواتَ الرَّكعةِ.
فيكون المراد: أن لا يشتغل المصلي بالمفضول عن الفاضل، وهذا مكروه إلا إذا ترتب على ذلك فعل محرم أو ترك واجب، كترك الجماعة.
والقاعدة: الأصل في الأحكام التعليل.
٣- إذا كان النفي أو النهي عند إقامة الصلاة لمن قد بدأ النافلة، ففي من لم يبدأ من باب أولى.
قال ابن رشد: وحكى ابن المنذر أن قوما جوزوا ركوعهما في المسجد والامام يصلي، وهو شاذ)) انتهى، وفيه نظر، فقد قال بكراهة ذلك الكثير من أهل العلم.
فإذا أُقيمتِ الصَّلاةُ فلا يَفتَتِح غيرَها من النوافِلِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة، على خلاف في النهي للتحريم وعدم الصحة كما هو مذهب المالكية والحنابلة، أو النهي على الكراهة وصحة الشروع في النفل بعد إقامة الفريضة كما هو مذهب الشافعية، والحنفية: يرون الكراهة إلا ركعتي الفجر ما لم يخف فوات الجماعة.
وأما إذا أُقيمتِ الصَّلاةُ وهو في صلاة النافلة:
فذهب الشَّافعيَّةُ، والحنابلةُ، وبعضُ السَّلف إلى أنَّه إذا أُقيمت الصلاةُ وهو في صلاةِ النافلة، فإنَّه يتمُّ صلاتَه، إلَّا إذا خاف أن تفوتَه صلاةُ الجماعةِ، فإنَّه يقطعُ النَّافلةَ.
لأنَّ في ذلك جمعًا بين النُّصوص؛ فيُتمُّ المصلِّي صلاتَه:
لقوله تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) فنهانا الله عن إبطالِ العملِ، والصَّلاةُ عملٌ.
ولأنَّ النَّهيَ في قولِه: ((فلا صلاةَ إلا المكتوبةُ)) يحمل عَلَى الابتداءِ دونَ الاستدامةِ جمعاً بين الأدلة.
٤- قوله: "فلا صلاة " يحتمل أن يراد: فلا يشرع حينئذ في صلاة عند إقامة الصلاة، ويحتمل أن يراد: فلا يشتغل بصلاة وإن كان قد شرع فيها قبل الإقامة بل يقطعها المصلي لإدراك فضيلة التحريم، أو أنها تبطل بنفسها وإن لم يقطعها المصلي، يحتمل كلا من الأمرين.
فالعلة واحدة في الحالتين وهي عدم الاشتغال عن الصلاة المكتوبة -والاشتغال بالمفضول عن الفاضل-.
فما الفرق بين من بدأ في الصلاة قبل الاقامة أو بعدها؟
٥- فإن قيل: النكرة في سياق النفي، وهو هنا في معنى النهي، فتعم الإتمام والابتداء، ولا ينبغي الانشغال بنافلة مع التفريط في الفريضة، ولا يجوز تعمد ترك أي جزء من أجزاء الفريضة عمدا مع القدرة على إدراكها، والمكلف مخاطب بالدخول فيها علي الفور، والمتطوع أمير نفسه في النافلة.
فالجواب: أن الفريضة هي الجماعة وهي تدرك بجزء منها أو بإدراك ركعة على الأصح، فإذا لم يترتب عليها ترك الجماعة، لم يفت عليه شيء مما أوجب الله تعالى عليه، فيدرك الصلاة بإتمامها ولو بعد سلام الإمام، والجماعة بما تدرك به، ويكون بذلك قد انشغل بالمفضول عن الفاضل.
والله تعالى أعلم.
كتبه/ د. محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق