حكم التمثيل :
التمثيل : تقمص دور الآخرين وحالتهم ، أو محاكاة لعمل الغير أو قوله .
والتمثيل كما يكون بالفعل، كذا يمكن أن يكون بالقول ، وأيضاً قد يكون بمحاكاة الغير بما هو مباح شرعاً، وقد تكون محاكاته بما لا يجوز تحقيقاً لفساده ،وتحصيلاً لمقصود شرعي أعظم .
ويدل على ذلك قوله تعالى : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين(76)فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين(77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون(78) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين(79 ) الأنعام
فإبراهيم عليه السلام قصد إقامة البرهان على بطلان إلاهية النجوم والقمر والشمس بهذا القول والعمل حيث أوهمهم أنه لا يعرف ربه وأنه قد يكون هذا الكوكب أو ذاك القمر أو تلك الشمس، فلما أفلوا جميعاً قال( يا قوم إني بريء مما تشركون) فهو عليه السلام قال عن تلك المخلوقات( هذا ربي) مع اعتقاده أنها ليست رباً له، - وتلفظ بهذا اللفظ الذي يخالف عقيدة كل مسلم وتقمص غير عقيدة المسلمين وأنه لا يعرف ربه ، وحاكى قومه ، ليوصل لهم بطلان معتقدهم، وتبرأ مما وقعوا فيه من الشرك.
ففي هذه الآية دليل على جواز التمثيل قولاً وعملاً لحصول ما مصلحته أعظم من مفسدته.
@ ومن الأدلة التي تدل على أن التمثيل قد يقع بالقول، كما قد يقع بالفعل : ما جاء في قصة الملائكة عليهم السلام مع نبي الله داود عليه السلام حيث أخبروا عن أنفسهم أمام داود بما لم يتلبسوا به، فكان تحاكمهم تمثيلاً وكلامهم تمثييلاً ، وصوروا المسألة وكانوا في صورة إنس، وذلك في قوله تعالى ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المِحْراب ، إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه....).
فإن قيل : لا يصح قياس عالم الشهادة على عالم الغيب:
فالجواب : كون هذا من عالم الغيب لا يعني عدم الاحتجاج به ، لأنه بعد أن قصه الله عليه لم يكن غيباً لنا، وفعل الملائكة شيئاً يدل على مشروعيته، لأن الملائكة عصمهم الله تعالى من المعصية، ولم يفعلوه إلا بأمر الله وإذنه تعالى لهم . وهذا الفرق غير مؤثر، فكان هذا التقمص والتمثيل من الملائكة لمصلحة الاختبار والابتلاء.
@ وقد روى البخاري ومسلم حديث أبي هريرة مرفوعاً ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، وفيه ( بينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة ، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا ، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه في فيه فجعل يمصها).
ففيه محاكاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتضاع الطفل بإصبعهالسبابة في فيه، فدلّ على مشروعية التمثيل.
فإن قيل :
١ - التمثيل فيه كذب، نقول دلت النصوص على مشروعية الإخبار فيه بخلاف الواقع للمصلحة الراجحة، فلا يعتبر كذباً شرعاً.
وليس كل كذب لغة يعتبر كذباً شرعاً .
فالرجل يحلف على غلبة ظنه في شيء يتبين خلافه، لا يعتبر كذباً في الشرع وإن اعتبر في اللغة كذباً لكونه لم يطابق الواقع. فكذا النصوص دلت على مشروعيته في التمثيل تخقيقً للمصلحة الراجحة فيه.
وكما يكون التمثيل بالفعل وهي المحاكاة كذا يكون بالقول كما سبق.
وفي صحيح البخاري مرفوعاً( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً وينمي خيراً) وهذا التمثيل فيما يقصد به المصلحة الراجحة منه.
٢ - فإن قيل : التمثيل فيه عمل زور، وعمل الزور من أكبر الكبائر ، وذلك بأن يتشبع الإنسان بما لم يكن فيه، كمن يظهر نفسه تقياً وهو فاجر، أو يظهر نفسه بكونه غنياً وهو فقير، وهكذا. وفِي التمثيل يقوم يدور وعمل ليس له.
فالجواب: أن الممثل يعرض صورة غيره ، لا صورة نفسه بما ليس فيه. فلا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين- ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
٣ - فإن قيل : التمثيل : من المحاكاة المنهي عنه، فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه مرفوعاً( ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)
فالجواب : على فرض صحته، أنه محمول على المحاكاة على سبيل التنقص والاحتقار، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه ، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
٤ - فإن قيل : إن الممثل يدخل - فيما رواه أحمد وغيره - في قوله صلى الله عليه وسلم ( وَيل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم وَيْل له ويل له)
فالجواب : أن هناك فرق بين الذي يحدث بنفسه ويكذب ليضحك القوم ، وبين الناقل لحديث غيره ولم يكذب، وإنما نقل حديث غيره أو فعله.
٥ - فإن قيل التمثيل لهو ، وكل لهو باطل إلا ما استثني.
فالجواب: أن اللهو المحرم هو الذي يلهي عن طاعة الله تعالى ، أو تحصل بسببه غالباً الانشغال عن طاعة الله تعالى ، كالنرد ونحوه-وقد سبق تقريره في حكم اللعب بالنرد-
والباطل، كما يطلق على الحرام ، فإنه يطلق ويراد به ما لا فائدة منه وإن لم يكن حراماً.
٦ - فإن قيل : التمثيل ، فيه تشبه بالكفار .
فالجواب : على فرض التسليم بذلك، فإن الشيء إذا انتشر بين أوساط المسلمين، انتفت منه علة التشبه.
٧ - فإن قيل : قد يتضمن التمثيل تمثيل دور الكافر قولاً وفعلاً، كأن يجعل نفسه قسيساًأو راهباً، ويشد في وسطه الزنار، وينطق بما هو كفر.
فالجواب : أن من قال الكفر راضياً به منشرحاً صدره به ، خرج من الملة ، وأما ما قاله أو قام بدوره من الكفر لا يحكي واقع نفسه، وإنما يحكي واقع غيره، وقول غيره، وفعل غيره، من باب تحقيق فساده ، وتحذير الناس من فعله،
لا يعتبر خروجاً من الملة والدين كما فعل إبراهيم مع قومه وقال عن الكوكب( هذا ربي).
وكان ذلك مثل من يحكي حكاية الكفر، وناقل الكفر ليس بكفر، وكذا تقمص شخصية الكافر وحكاية قوله لا انشراحاً ورضاً به ، وإنما تحقيقاً لمقصود شرعي.
مع العلم أن من أهل العلم من يعتبر قول الكفر وفعله من باب التمثيل ، يخرج به المسلم من الملة لأنه غير مكره على ذلك ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ). فينبغي الحذر والاحتياط .
فإن قيل : تمثيل الرجل للمرأة ، لا يجوز وكذا العكس، ( لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) فإذا كان ذلك لا يجوز ، فكيف يجوز تمثيل دور الكافر تحقيقاً للمقصود الشرعي.
فالجواب : أن التشبه بالنساء من الرجال والعكس، يقع فيه الممثل بمجرد هذا الفعل، فالذي فعل المحظور هو الممثل ، ولو كان من مثل دوره وقع في التشبه فإنه لا يجيز له المحظور.
ففرق بين من يحكي فعل المحظور ناقلاً فعل غيره أو قوله ، وبين من يفعل المحظور ، ولو فعله غيره، ولهذا قال العلماء : إن المعاقبة بالمثل إنما تكون مشروعة فيما كان يعود لحق المخلوقين لا لحق الله تعالى .
وبعد هذا العرض يتبين رجحان جواز التمثيل المحقق للمقاصد الشرعية ، الخالي عن المحرمات من الآت اللهو والطرب والموسيقى والاختلاطالمحرم، والخلوة غير الشرعية، والدعوة للأخلاق السافلة ، والدعوة إلى الفاحشة ، ونشرها بين المسلمين ، وتعظيم الكفار وشعائرهم، وتنقص من أمرنا بتعظيمه، وتمثيل دور المرأة من الرجل وكذا العكس، وأن لا يحتوي على مفسدة أعظم من مصلحته ،فكل مباح أدى إلى فتنة أو مفسدة أعظم فهو حرام - كما تقدم تقريره في القواعد التسعون في الفقه والأصول -.
والله تعالى أعلم وأحكم .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق