حكم التحنيك:
التحنيك: أن يُمضغ التمر ثم يدلك بحنك الصبي حديث الولادة داخل فمه.
قال ابن حجر: "التحنيك مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل، ويقوى عليه، وينبغي عند التحنيك أن يفتح فاه حتى ينزل جوفه، وأولاه التمر، فإن لم يتيسر تمر فرطب، وإلا فشيء حلو، وعسل النحل أولي من غيره".
* روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ).
فذهب عامة أهل العلم إلى استحباب تحنيك الصبي بعد ولادته، حتى حكى النووي رحمه الله الاتفاق عليه، ولعله يقصد الاتفاق في مذهب الشافعية.
وذهب جمع من أهل العلم: إلى أنه كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه نظر: لأن الأصل عدم الخصوصية، حتى يدل الدليل عليه.
والقاعدة: التخصيص يكون وصفاً لا عيناً -كما تقدم تقريره في القواعد-.
وقد فهم سلف الأمة عدم الخصوصية في مسألتنا هذه.
* ومما يدل على أن التحنيك كان معروفاً عند الصحابة ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده": حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أن أمّه أُمّ سُلَيْمٍ رضي الله عنها حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ، فَوَلَدَتْهُ لَيْلًا، وَكَرِهَتْ أَنْ تُحَنِّكَهُ حَتَّى يُحَنِّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال أنس: فَحَمَلْتُهُ غُدْوَةً وَمَعِي تَمَرَاتُ عَجْوَةٍ فَوَجَدْتُهُ يَهْنَأُ أَبَاعِرَ لَهُ أَوْ يَسِمُهَا، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ اللَّيْلَةَ فَكَرِهَتْ أَنْ تُحَنِّكَهُ حَتَّى يُحَنِّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَمَعَكَ شَيْءٌ؟ قُلْتُ تَمَرَاتُ عَجْوَةٍ. فَأَخَذَ بَعْضَهُنَّ فَمَضَغَهُنَّ ثُمَّ جَمَعَ بُزَاقَهُ فَأَوْجَرَهُ إِيَّاهُ، فَجَعَلَ يَتَلَمَّظُ فَقَالَ: (حُبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ) وهو في البخاري ومسلم.
فقوله في الحديث: (وَكَرِهَتْ أَنْ تُحَنِّكَهُ حَتَّى يُحَنِّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) دليل على أن التحنيك كان معروفا عندهم.
وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية:
"ولد الحسن -يعني البصري- في خلافة عمر بن الخطاب، وأتى به إليه فدعا له وحنكه" أ. هـ.
* وذكر ابن القيم في تحفة المولود: "وقال الخلال: أخبرني محمد بن علي قال: سمعت أم ولد أحمد بن حنبل تقول: لما أخذ بي الطلق كان مولاي نائما فقلت له: يا مولاي هو ذا أموت! فقال: يفرج الله. فما هو إلا أن قال يفرج الله حتى ولدت سعيدا، فلما ولدته قال: هاتوا ذلك التمر -لتمر كان عندنا من تمر مكة-. فقلت لأم علي: امضغي هذا التمر وحنكيه. ففعلت".
* وإذا لم يجد تمراً حنكه بأي شيء يكون أقرب للتمر، فإن لم يجد فبغيره.
* فإن قيل: إن أخذ الصبي إلى المشايخ أو إلى أهل الصلاح لتحنيكهم رجاء البركة، فيه رجاء البركة من غير النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في تيسير العزيز الحميد (153):
تنبيه: ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم والتمسح بهم أو بثيابهم وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين والتبرك بعرقهم ونحو ذلك وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووي في شرح مسلم في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئاً من ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه و سلم وهذا خطأ صريح لوجوه:
منها عدم المقاربة فضلاً عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة.
* والجواب: أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لا يمنع الإقتداء به (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)-.
ومنها عدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص كالصحابة الذين أثني الله عليهم ورسوله أو أئمة التابعين أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم.
ومنها انا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء والأعمال بالخواتيم فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره.
- والجواب: من وجهين:
الأول: نعامل الناس معاملة الظاهر، والظن بمن ظاهره الصلاح خلاف ذلك من الظن السيء.
الثاني: أن العبرة بالمنظور لا بالمنتظر-.
ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته ولو كان خيراً لسبقونا إليه فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه و سلم بالجنة وكذلك التابعون هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم فدل أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه و سلم ومنها أن فعل هذا مع غيره صلى الله عليه و سلم لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم.
* -والجواب عليه: من وجهين:
الأول: لا يشترط للعمل بالكتاب والسنة معرفة من عمل به بعده، اللهم إلا أجمعت الأمة على عدم العمل به، فهذا يدل على أنه منسوخ، وإن لم يعلم الناسخ.
ب- كون النبي صلى الله عليه وسلم مباركاً لا يمنع حصول البركة في غيره (واجعلني مباركاً أينما كنت).
والذي يحدث البركة ويوجودها من العدم هو الله وحده لا شريك له، فلا خالق إلا الله تعالى-.
* فإن قيل: حديث أنس في الصحيحين إلا الزيادة التي استدلوا بها، عند أحمد وغيره رواها حميد الطويل وهي (فَكَرِهَتْ أَنْ أُحَنِّكَهُ، حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ) فهي شاذة، فقد خالف حميدٌ إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، و أنس بن سيرين، ومحمد بن سيرين، وثابت البناني، وقتادة بن دعامة السدوسي، وهشام بن زيد بن أنس بن مالك, وهؤلاء أئمة في الحفظ، وخاصة أن حميد الطويل في حديثه عن أنس كلام.
وأيضاً يفسّر بتحنيك الطعام لا التحنيك للبركة، ما في الرواية الأخرى: لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، قَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ، انْظُرْ هَذَا الْغُلامَ فَلا يُصِيبَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ.
وتحنيك عمر بن الخطاب للحسن البصري فذكرها ابن الجوزي بلا إسناد، وابن الجوزي متسامح في النقل، ونقلها عنه ابن كثير في البداية والنهاية.
فالجواب: على فرض عدم الصحة: فثبوت التحنيك من النبي صلى الله عليه وسلم كاف في المشروعية، وعليه جماهير أهل العلم.
والحكمة في التعليل، قد تكون بركة الرجل الصالح، وقد تكون منفعة الصبي بالتحنيك، وقد تكون مجرد الاقتداء والتعبد، وقد تكون هذه وغيرها، ولا يلزم من الحكمة التعليل.
فالعلة: وصف ظاهر مناسب منضبط.
والحكمة: ما يترتب على الحكم الشرعي من جلب لمصلحة، أو دفع لمفسدة.
علماً: بأن التبرك بما ورد من الشرع التبرك به ليس من البدع، فلو فرض أن السبب في التحنيك التبرك بمن حنك الصبي بهذه الطريقة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بالصبيان الذين يؤتى بهم ليحنكهم، لكان ذلك جائزاً، ويقتصر على ما ورد، فلا يمنع ذلك من التحنيك.
والله تعالى أعلم وأحكم.
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى / مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق