حكم تخفيف القراءة في صلاة الفجر في السفر:
-------
حكى ابن عبدالبر: الإجماع على استحباب تخفيف القراءة في الصلاة في السفر.
ويسند ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (أفتَّان أنت يا معاذ، إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف).
وهذا يشمل السفر وغيره.
ولأن السفر قطعة من العذاب، فيحتاج فيه المسلم إلى التخفيف أكثر من حال الإقامة.
ولأن الشرع خفف عنه في الواجب، كجواز قصر الرباعية، والفطر في رمضان له، فالتخفيف في المستحب من باب أولى.
والقاعدة في ذلك: أن المشقة غير المعتادة على الغير غير جائزة.
لما فيها من الضرر، وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار). والعبرة بالمراعاة لحال الضعيف وذي الحاجة والمريض ممن يصلي خلف الإمام، للحديث: (واقتد بأضعفهم) فالنظرة بمراعاته في المسحب معتبرة.
* وكل ما ورد في السنة من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بالناس يعتبر من باب التخفيف، وليس في قراءته صلى الله عليه وسلم بالناس تنفير لهم، أو مشقة فادحة خارجة عن المعتاد في تحملهم، فقد قرأ بالطور، وقرأ بالسجدة والإنسان، وبالصافات، ونحو ذلك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحْدَه، فليصلِّ كيف شاء».. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحْدَه، فليصلِّ كيف شاء» رواه البخاري، ومسلم.
قال الإمام الترمذي: "وحديث أبي هريرة حديثٌ حسنٌ صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم اختاروا أن لا يُطيل الإمام الصلاة مخافة المشقة على الضعيف والكبير والمريض" (سنن الترمذي).
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على التخفيف منها: -عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأتخلَّف عن صلاة الصبح مما يطول بنا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن منكم منفِّرين فأيُّكم أمَّ الناس فليُخفِّف فإن فيهم الكبير والسقيم وذا الحاجة» رواه البخاري ومسلم
- وعن جابر رضي الله عنه قال: "أقبل رجل بناضحين له -جملين يسقي عليهما- وقد جنح الليل فوافق معاذ بن جبل يصلى المغرب، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ ليصلي معه، فقرأ معاذ البقرة، أو النساء فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذاً نال منه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفاتِنٌ أنت -أو قال: أفتَّانٌ أنت- ثلاث مرار. فلولا صلَّيت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
فإنه يُصلِّي وراءك الكبير، وذو الحاجة والضعيف) رواه البخاري.
قال شيخنا العثيمين: "ومن الشَّفَقَة والرَّحمة بالمؤمنين: أنَّه إذا كان الإنسان إمامًا لهم، فإنَّه لا ينبغي له أن يُطِيل عليهم في الصَّلاة... والمراد بالتَّخفيف: ما وافق سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو التَّخفيف، وليس المراد بالتَّخفيف ما وَافَق أهواء النَّاس".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "...ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة، فإن هذا من العلم الذي لم يكلِه الله ورسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم، فيجب البحث عما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمضِ به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز أن يعمِد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس.. ومما يُبيِّن هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حدٌّ في اللغة ولا في العُرف، إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية. فعُلِمَ أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة، وبهذا يتبيَّن أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا يُنافي أمره بالتطويل أيضًا في حديث عمّار الذي في الصحيح لما قال: «إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرَ خُطبتِه مَئِـنَّةٌ -علامة- من فِقْهِه، فأطيلوا الصلاةَ واقْصُرُوا الخُطبةَ وإنَّ منَ البَيانِ سِحرًا». وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما، فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة.
فإن قيل: ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالأعراف في المغرب)، وهي سورة طويلة.
فالجواب: أن ذلك محمول على أحد الوجوه التالية:
١- أن يعلم أن من خلفه ينشطون خلفه لحسن صوته بالقراءة، أو نحو ذلك، فلا بأس والحالة تلك، فهو في حق من خلفه لا يعتبر تطويلاً، بل لربما تمنوا المزيد من القراءة.
٢- أن ذلك لمصلحة التشريع، ليبين للامة الجواز والمشروعية في أحكام شرعية، ومنها جواز القراءة بالسورة الطويلة في صلاة المغرب مع قصر وقتها.
والقاعدة: إن الفعل المفعول لبيان الجواز قد يكون أفضل بذلك الاعتبار، وأن كان غيره أفضل منه باعتبار ذاته.
٣- ولأن التطويل في القراءة والتقصير فيها أمر نسبي، شريطة أن لا يصل إلى حد المشقة الفادحة.
* فإن قيل: إن عدم التطويل في القراءة هل يشمل ذلك صلاة النافلة كالتراويح.
فالجواب: من نظر إلى اللفظ: قال: لا فرق، لعموم الأدلة.
ومن نظر إلى المعنى: قال لا يعتبر التطويل في القراءة في صلاة النافلة منهياً عنه، وهو الأقرب، للأسباب التالية:
١- القاعدة: إذا تعارض اللفظ والمعنى، قدم المعنى إذا ظهر، وإن لم يظهر فإتباع اللفظ أولى، والنافلة في الصلاة لا مشقة فيها مطلقاً، لجواز قطعها، ولجواز تركها، ولجواز الصلاة فيها وأنت جالس.
٢- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بابن عباس، وأطال حتى قرأ بالبقرة والنساء وآل عمران.
٣- ولان النافلة كلها تخفيف، وتخفيف الخفيف زيادة في التخفيف ولا يخرج عن أصله، وهو كونه خفيفاً. بخلاف الفرض فهو الذي يخرج فيه الإنسان عن كونه خفيفاً، والله تعالى أعلم.
كتبه/ محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى/ مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق