حكم إخبار مشاهير السناب عن قدومه لبلد من البلدان:
يخبر بعض مشاهير السناب عن قدومه لبلد ما لأسباب وأغراض تتفاوت بين الحل والحرمة بحسب وقوع المحظور الشرعي منهم من عدمه، وبما أن الأصل: جواز إخبار الإنسان عن نفسه من القدوم على البلد من عدمه، إلا أننا نذكر ما لا يجوز مما يفعله مشاهير السناب في هذا الشأن:-
١- أن يفعل ذلك من باب التسول لغدائه وعشائه واستئجار الناس له منزلاً يسكن فيه مجاناً، أو أن يبادرالناس لحجز له الطائرة والسيارة ونحو ذلك.
فهذا يكون من باب التسول المذموم بطريقة عصرية يفهم المراد منها، والعبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، فمتى ما عرف أن مقصوده هو التسول، كان من المسألة المذمومة، وفِي الحديث: (من سأل الناس أموالهم تكثراً، فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر) رواه مسلم.
وروىالترمذي وحسنه مرفوعاً: (المسألة كد يكد -يخدش- بها الرجل وجهه إلا أن يسأل سلطاناً، أو في أمر لا بد له منه).
إلا سؤال ما جرت العادة بسؤاله فلا بأس به، كطلب القرض والعارية -وقد سبقت في القواعد-.
٢- أن يفعل ذلك، ويكذب في قوله من أجل أن يكسب مكاناً يحل فيه مجاناً، كأن يقل: يا أهل الطائف لم أجد حجزاً في فنادقكم ، وهو واجد لذلك، ففيه محذور الكذب مع المسألة المذمومة.
٣- أن يكون قصده بذلك العجب بنفسه والتباهي أمام الملأ، ليعرف الناس أن له قدراً عند الناس وجاهاً -فهم يستقبلونه ويستأجرون له، ويسفرونه على حسابهم-.
فهذا فيه من المحاذير: العجب بالنفس: وهي مراءة الإنسان بعمله لنفسه -وقد سبق الفرق بين الرياء والعجب في مدونتي في النت-.
وفِي الحديث لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتبختر أمام العدو، فقال: (إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع).
وفِي الحديث: (من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به).
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من سمّعَ سمّعَ الله به" " سمَّعَ" بتشديد الميم، ومعناه: أظْهَرَ عمَلَهُ للنَّاس ريَاءً." سمَّعَ الله به" أي: فضَحه يومَ القيامة.
قال ابن حجر: قال الخطَّابي: المعنى مَنْ عمل عملاً على غير إخلاص، يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزِيَ على ذلك بأن يُشهِّر اللهُ به ويفضحه ويُظهر ما كان يُبطنه، وقيل : مَنْ قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإنَّ اللهَ يجعله حديثاً عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة.
وقيل: المراد: مَنْ قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليُعَظِّموه وتعلو منزلته عندهم، حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاؤه على عمله، ولا يُثاب عليه في الآخرة.
وقيل: المعنى: مَنْ سَمَّع بعيوب الناس وأذاعها أظهر اللهُ عيوبه وسمَّعَه المكروه. وقيل معنى سمَّع الله به شهره أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة.
قال الإمام النووي: "قال العلماء معناه من رآء بعمله وسمعه الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا خيره سمع الله به يوم القيامة الناس وفضحه. وقيل معناه من سمع بعيوبه وأذاعها أظهر الله عيوبه، وقيل أسمعه المكروه، وقيل أراه الله ثواب ذلك من غير أن يعطيه إياه ليكون حسرة عليه وقيل معناه من أراد بعمله الناس أسمعه الله الناس وكان ذلك حظه.
وقال شيخنا العثيمين: "من سمَّعَ سمَّعَ الله به" يعني من قال قولاً يتعبد به الله، ورفع صوته بذلك حتى يسمعه الناس ويقولون فلان كثير الذكر، كثير القراءة وما أشبه ذلك، فإن هذا قد سمَّع عباد الله يرائي بذلك سمّع الله به أي فضحه وكشف أمره وبين عيبه للناس وتبين لهم أنه مرائي، والحديث لم يقيد هل هو في الدنيا أو في الآخرة، فيمكن أن يسمع الله به في الدنيا فيكشف عيبه عند الناس، ويمكن أن يكون ذلك في الآخرة وهو أشد والعياذ بالله وأخزى، كما قال الله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} فصلت:16.
ويدخل في قوله-صلى الله عليه وسلم-: " من سمَّع سمَّع الله به" الذين يشققون الخطب، وينمقون الألفاظ، ويتقعرون في الكلمات، ويمططون أصواتهم بالتلاوة والآذان، ليقال أصواتهم حسنة، وألسنتهم فصيحة، ومالهم من بلاغة القول إلا ما تستحسنه الآذان، ولا ينفذ منها إلى القلوب، وإنما يؤثر في النفوس القول البليغ الذي يتوصل به السامع إلى قصد المتكلم، ويبلغ به المنفعة المرجوة له ولقائله، وكذلك يدخل فيه الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، والذين يتتبعون عثرات الناس، ويتكشفون عوراتهم، من أجل أن يفضحوهم، وإذا سمعوا منهم الكلمة طاروا بها في الآفاق. وملئوا بها القلوب والآذان، لا لشيء سوى الإنكار على قائلها والتسميع به، والله لا يحب كل أفاك أثيم.
وقوله-صلى الله عليه وسلم-:"وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ"
الرياء مصدر قولهم: راءه يرائيه رياءً ومراءةً، وهو مأخوذ من مادَّةِ رأى التي تدل- كما يقول ابن فارس -على نظر وإبصار بعين أو بصيرة، يقال من ذلك: راءى فلان، وفعل ذلك رئاء الناس ورياء الناس، وهو أن يفعل شيئاً ليراه الناس.
قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آل عمران:105.أ.ه.
والحديث السابق يحتمل جميع هذه المعاني بحسب وضع واحد، فيحمل عليها.
والقاعدة: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزّل منزلة العموم من المقال.
٤- أن يفعل ذلك من باب الدعاية والإعلان، أي ليعرف الناس بقدومه، فيتعامل الناس معه بالدعاية لأسواقهم وبضائعهم، ويأخذ على ذلك أجراً سعياً لعمله وإعلانه فلا بأس به.
٥- أن يفعل ذلك من باب تقديم محتوى مباح لمتابعيه وجمهوره لا نشراً لفساد ولا دعاية له، فلا بأس.
لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
هذه هي غالب اهتمامات مشاهير السناب التي تحضرني عند كتابة هذه الرسالة في عصرنا، فيكون هذا العمل جائزاً ما لم يحتو محذوراً شرعياً.
وينبغي لمشاهير السناب: أن يعلموا أن الذي يعز ويذل ، ويخفض ويرفع هو الله تعالى لا البشر، وأن يُخلصوا في عملهم، فإن العلم والشجاعة والكرم، هي أفضل الأعمال عند الله تعالى ثم هي أفضل الأعمال عند البشر متى ما قرنت بالنية الصالحة الصادقة المخلصة لله في عملها، ومتى ما قرنت بالنية السئية كانت هي أخبث الأعمال، وكان صاحبها أول من تسعر به النار يوم القيامة.
فإذا أعطى الله إنساناً شهرة وجاهاً فليستغل ذلك فيما يرضي الله تعالى شكراً لله على نعمه.
ولا يدعو إلى فساد ولا يفسد في الأرض بعد صلاحها، (والله يعلم المفسد من المصلح).
والله تعالى أعلم.
كتبه/ أبو نجم: محمد بن سعد العصيمي/ كلية الشريعة/ جامعة أم القرى/ مكة المكرمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق