حكم الصلاة في أوقات النهي :
سبق بيان ذلك في : حكم صلاة التطوع بعد طلوع الفجر ، وبينا أن الصلاة في أوقات النهي مكروهة لا محرمة .
ونشير هنا إلى تحديد تلك الأوقات، وما يستثنى منها ، وما لا يستثنى ، وعلة النهي في ذلك .
@ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر : ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن ، أو أن نقبر فيهن موتانا:( حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيف الشمس للغروب ).
وفِي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ...) وفِي لفظ للبخاري ( حتى ترتفع ).
ولا تعارض بين هذه الأحاديث، لأن القاعدة في ذلك : أحد أفراد العام لا يخصص به إذا كان موافقاً له في الحكم .
وهذا الارتفاع بعد طلوعها، والذي بعده يزول النهي، هل هو محدد بارتفاع قرص الشمس عن الأرض، كما في حديث ابن عمر مرفوعاً في الصحيحين ( إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب) فجعل الحد هو خروج جزء من حاجب الشمس حتى يكتمل ويرتفع عن الأرض ولو بمقدار شعرة، أو هو محدد بإرتفاع الشمس عن الأرض قدر رمح،
وذلك كما في حديث عمرو بن عبسة عند مسلم في صحيحه مرفوعاً( فإذا ارتفعت قيد رمح أو رمحين فصل ) والرمح يختلف في الطول والقصر، فيكون المعتبر فيه الوسط منها إن لم يكن فيها غالب . والرمح قٌدًر بسبعة أذرع، وبستة أذرع، وبثلاثة أذرع.
والقاعدة في ذلك : اللفظ المتردد بين القليل والكثير: المعتبر فيه الوسط.
كما في حديث أبي برزة الأسلمي ( وكان يقرأ بالستين إلى المئة ) - في صلاة الغداة - فيعتبر بالوسط من الآي ، لا بالطويل منها ولا بالقصير.
ما لم يكن هناك اصطلاح غالب كما في حديث القلتين( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) فالقلال تختلف إنذاك ، ولكن غالب الإطلاق آنذاك قلال هجر، كما عرف من أشعار العرب وغيرها، والقاعدة : العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام .
@ والأقرب في نظري والعلم عندالله تعالى أن تحديد وقت النهي : ينتهي بارتفاع الشمس قيد رمح لا بمجرد ارتفاع حاجب الشمس ، لأن القاعدة في ذلك : أن القليل يدخل في الكثير، والأدنى في الأعلى .
وقوله ( أو رمحين ) إذا تحقق الإذن في الأدنى ، تحقق الإذن في الأعلى من باب أولى .
@ قائم الظهيرة : من قولهم قامت به دابته إذا وقفت ، والشمس إذا بلغت وسط النهار أبطأت حركة الظل إلى أن تزول، فيتخيل للناظر أنها وقفت، وهي سائرة .
وهذا الوقت ما يقارب ثلاث دقائق قبل الزوال .
@ حين تتضيف للغروب : تميل ، فلم يبقى عن غروبها إلا بمقدار قيد رمح، ومع أن النهي في حديث أبي سعيد الخدري من بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس إلا أن النهي يتأكد أكثر في هذه الأوقات الثلاثة ولا يخصصه حديث عقبة بن نافع، لأن أحد أفراد العام لا يخصص به إذا كان موافقاً له في الحكم .
@ استثناء يوم الجمعة لا يصح، فعند الشافعي والبيهقي من حديث أبي هريرة وزاد ( إلا يوم الجمعة ) وفيه : إبراهيم بن محمد بن أبي يحى : كذاب رافضي ، وقال النسائي والدارقطني : متروك. وقال ابن حجر في البلوغ : سنده ضعيف.
وحديث أبي قتادة :( وكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) ضعيف ، فيه علتان : قال أبو داود: مرسل: مجاهد أكبر من أبي خليل، وأبو الخليل- صالح بن أبي مريم - لم يسمع من أبي قتادة .
والعلة الثانية : فيه ليث بن أبي سليم : صدوق اختلط حديثه ولم يتميز فترك.
قال ابن حجر في التلخيص : والخلاصة أن الحديث ضعيف.
@ وروى أحمد وأهل السنن : حديث جبير بن مطعم مرفوعاً( يا بني عبد مناف ، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شآء من ليل أو نهار ).
وفيه أبو الزبير : محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، صدوق يدلس، ولا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع ، فهو من الطبقة الثالثة من مراتب الموصفين يالتدليس، وقد صرح بالسماع في رواية النسائي، ولهذاصحح هذا الحديث الترمذي وابن حبان وغيرهما .
وهل فيه دليل على استثناء ركعتي الطواف من أوقات النهي،( طاف بهذا البيت وصلى ) أم فيه استثناء الصلاة في مكة ، لأن مكة كلها حرم فتلحق بركعتي الطواف، أم أن حديث جبير بن مطعم هذا نظير النهي عن الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب، بحيث لا يجوز الإنكار عليه لوجود المانع ، ولا يعني عدم الإنكار عليه أنه ليس بمنكر، فكذا حديث جبير هذا. وهو الأقرب في نظري، وعلى فرض هذه الاحتمالات، فالقاعدة : إذا جآء الاحتمال بطل به الاستدلال .
- وهذا في الاحتمال الراجح أو المساوي كما ههنا لا في الاحتمال المرجوح.
- وعلى هذا فلا تستثنى مكة ولا الحرم من أوقات النهي.
@ العلة أو الحكمة في النهي عن الصلاة في أوقات النهي :
عن عمرو بن عبسة ، قال : فقدِمْتُ المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟، قال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة؟، قال: فقلت: بلى، فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟، قال: صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلَّ فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة، حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار . ...) رواه مسلم .
ففي هذا الحديث بيان للعلة أو الحكمة في النهي، وبما أن القاعدة العقدية : ما كان وسيلة للشرك الأكبر، فهو شرك أصغر. وهذا تعريف للشرك الأصغر عند بعض أهل العلم ، وعرف آخرون الشرك الأصغر : بأنه كل ما ثبت تسميته في الكتاب أو السنة شركاً، وأجمع العلماء على عدم خروج صاحبه بسببه من الشرك ، وهذا التعريف أضبط، ومع ذلك ما كان وسيلة للشرك الأصغر تختلف فيه الشرائع في منعه أو إباحته، كما في سجود التكريم للآدميين مباح في شريعة يوسف قال تعالى :( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً) ومحرم في شريعتناقال صلى الله عليه وسلم : ( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة ان تسجد لزوجها)
بل يختلف باختلاف الشريعة الواحدة ، قال صلى الله عليه وسلم ( ألا إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ) فلما كانت المفسدة غالبة حرمت زيارة القبور لكونهم حديثوا عهد بعبادة الأوثان، فلما استقر التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها بل أمروا بزيارتها لرجحان المصلحة، فكذلك ههنا لمن استقر التوحيد في قلبه ورجحت المصلحة ككون صلاة النافلة لها سبب جازت، وإن لم تكن الصلاة النافلة ذات سبب فهي على الكراهة - كما سبق في حكم صلاة التطوع بعد طلوع الفجر-
والعلة : هي وصف ظاهر مناسب منضبط.
والحكمة : ما يترتب على الحكم من جلب لمصلحة أو دفع لمضرة، وقد تكون العلة أحياناً هي الحكمة، وقد بيناه في الفرق بينهما فيما سبق.
والله تعالى أعلم .
كتبه / أبو نجم / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق