حكم إغلاق المساجد ، وترك الجمع والجماعات من أجل الأمراض الوبائية :
——————
تكمن الإجابة على هذه المسألة في النقاط التالية :
١ - أن المرض الذي يموت به الإنسان عادة ، يكون سبباً للحجر على المريض في تصرفاته بسبب ذلك المرض، كالوصية والوقف ونحوهما فيما زاد عن الثلث من ماله .
أما المرض الذي لا يموت بسببه عادة ، فتصرفه في ماله كالصحيح الذي لا مرض به . واجتماع الناس في المساجد ، إذا كان يحصل به انتقال المرض عادة ، يكون سبباً لاقفالها .
٢ - كل ما غلب على الظن حصول الضرر بسببه ، جاز ترك الجمعة والجماعة من أجله ، دفعاً للضرر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ).
وأما إذا كان ذلك من باب التوهم أو الوسوسة ونحوهما فلا يعذر الإنسان بهما في ترك الجمع والجوامع . ففرق بين الضرر الحقيقي ، والضرر المتوهم .
وكذا إذا كانت الإصابة به قليلة أو نادرة وذلك بنسبة عدد المصابين إلى من لم يصب به، كعدد ثلاثة آلاف شخص لمليار ونصف، يعتبر من العدد الضئيل الذي لا يجعله مرضاً وبائياً تسقط به الجمع والجماعات، وخصوصاً إذا كانوا أو أكثرهم في العزل الصحي.
والقاعدة : العبرة بالأعم الأغلب لا بالقليل والنادر - وقد سبقت في القواعد -.
٣ - أن التوكل : وهو الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار ، مع الثقة به سبحانه ، لا تنافي الأخذ بالأسباب
والقاعدة : الاعتماد على الأسباب شرك ، وترك الأسباب خلل في العقل .
( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ).
وقال صلى الله عليه وسلم ( اعقلها وتوكل )
وقال صلى الله عليه وسلم ( لا يوردن ممرض على صحيح )، وقال ( فر من المجذوم فرارك من الأسد ).
وحديث ( لا عدوى ولا طيرة ) أي أنها لا تنتقل بنفسها كما يعتقد الجاهليون في الجاهلية ، وإنما تنتقل بإذن الله تعالى ، وبهذا تجتمع الأدلة .
٤ - أن من أسباب النجاة من الأمراض الوبائية ، اللجوء إلى الله تعالى ، والابتهال والتضرع له سبحانه، وكثرة الصلاة والإقبال على الطاعة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر ، قال :( ارحنا بالصلاة يا بلال ). وقال تعالى :( وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس، وصلى بهم خطبهم فقال : ( وإنما هما آيتان يخوف الله بهما عبادة ، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا وتصدقوا ..).
فما نزل بلاء إلا بذنب ، وما رفع إلا بتوبة .
وكما أن من الأسباب الحسية الابتعاد عن المجذوم والأمراض الوبائية ، فكذا من أسباب رفع البلاء : الأسباب الشرعية .
٥ - أن الضرر المتوقع له حكم الضرر الذي جرت العادة حصول الشيء بسببه.
والقاعدة : السؤال عن المانع المتوقع لا بأس به ، والسؤال عن المانع غير المتوقع تنطع .- وقد سبقت في القواعد -.
فكذا الضرر المتوقع بالأوبئة له حكم الضرر الحقيقي ،علماً بأن الضرر اليسير لا يكون عذراً في ترك الواجبات .
وقاعدة الإكراه : إذا كان الضرر الواقع عليك أعظم من الضرر الصادر منك ، فأنت معذور ، وما لا فلا - وقد سبقت في القواعد
ولهذا إذا كان الضرر يسيراً ، لا يجوز به ترك الجمع والجماعات .
٦ - أن الضرر الذي يمكن تلافيه بدون ترك الواجب من الجمع والجماعات ، تعين الواجب وفعل السبب الدافع للضرر، لأن الضرورة لا تكن ضرورة إلا بشرطين :
أ - أن نتيقن أن بهذا الشيء تزول الضرورة.
ب - ان لا يوجد غيرها يقوم مقامها .
فالأمر بالجمعة والجماعات والنهي عن ورود مواطن الوباء .فيه تعارض الأمر والنهي، في ( لا عدوى ولا طيرة) ، «لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»، والنصوص الآمرة بالجمعة والجماعات، فيعمل بالجميع إن أمكن، وإلا سلكنا مسلك الترجيح، ويقدم النهي على الأمر، لأن النهي درء لمفسدة، والأمر جلب لمصلحة، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، اللهم إلا إذا كانت المصلحة هي الراجحة .
🔹قال علاءُ الدينِ أبو الحسنِ المَرْداويُّ الحنبليُّ الدمشقي في الإنصاف :
"ويُعذر في ترك الجمعةِ والجماعةِ المريضُ بلا نِزاعٍ، ويُعذَر أَيضًا في تركهما لخَوفِ حُدوثِ المرض ".
والضرر قد يكون من خوف الموت والهلاك أو المرض أو عجز المنظومة الصحية عن القيام بمهامها في هذا المرض وغيره.
٧ - من أدلة اعتبار ترك الجمع والجماعات واغلاق اماكن اجتماع الناس : أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمنادي ( صلوا في رحالكم ) فإذا كان ذلك من أجل وجود المشقة وخشية الضرر عند وجود المطر ، فخشية حصول الضرر بالمرض من باب أولى . وكذا قوله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ).
وكذا الرخصة في التيمم خشية استعمال الماء إذا كان باستعماله يخشى الضرر ، وفي الحديث لما احتلم الرجل في ليلة شاتية ، فقالوا : لا نجد لك رخصة، قال صلى الله عليه وسلم ( قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذ لم يعلموا فأنما شفاء العي السؤال ). وإذا كان ترك الجماعة من أجل أكل البصل والثوم ( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا مصلانا ) وذلك لما في ذلك من الأذية برائحتهما، فكيف من خشي المرض بسبب الجماعة .
٨ - حصول مرض الطاعون ، وغيره من الأمراض الوبائية المعدية كالجذام ، وعدم ورود الإذن في ترك الجمع والجماعات ، ليس فيه دليل على عدم مشروعية تركها في الجماعة خشية الضرر، لأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم ، ولأن العادة لم تجر بانتقاله في عهدهم بهذا التجمع ، أو لم يخشوا انتشاره بهذه الطريقة ، أو نحو ذلك ، فحكم المسألة الشّرعيّ تبع للتّكييف الطّبّيّ للمرض ،ويحتمل أنهم لم يعرفوا حقيقة العدوى حقّ المعرفة ، نعم العدوى معروفة لكن تكييفها الطّبّيّ الدّقيق لم يوجد، وأثر هذا في المسألة ظاهر لا يخفى ، والخوف من العدوى قسمين: خوفْ وهميّ لا شاهد له في أرض الواقع ، وخوف صحيح وهو الّذي آثاره مشاهدة ومدركة ، ولا يخفى أنّ الثّاني لا يكون كالأوّل ، فيصحّ جعله مناطًا للحكم ، وإسقاط الجماعات والجُمع لأسباب حسّيّة معتدّةٍ شرعا لا بأس به .
كما أن الأخذ بالعزيمة لا يعني عدم جواز الأخذ بالرخصة .
٩ - قاعدة : التصرف على الرعية منوط بالمصلحة .
وكل من يتصرف لغيره ، يجب عليه أن يتصرف بالأصلح لذلك الغير .
وحكم الحاكم يفصل النزاع فيما رفع إليه مما وقع فيه الاختلاف .
وظنية قرار الولايات العامة أمر لا مفر منه، فهي في عموم المصالح والنظر فيها مختلف، وعليه لا يعترض عليه بالظن الآخر، ممن ليس صاحب ولاية، لأن السياسة الشرعية في تحقيق المصالح ودرء المفاسد راجعة إلى الظن الراجح خالية من القطع عَرِيّة من اليقين غالباً .
والخلاصة : إذا كانت الإصابة بالمرض الوبائي غالبة بالتجمع في مكان معين جاز ترك الجمعة والجماعة خشية وقوع الضرر وإلا فلا .والله تعالى أعلم .
كتبه / محمد بن سعد الهليل العصيمي/ كلية الشريعة / جامعة أم القرى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق