علة النهي عن الخروج من البلد المصاب بالطاعون أو الدخول إليه:
الطاعون : مرض وبائي معدي ينتج عنه انتفاخ الغدد وتوهجها ، خصوصاً في الأماكن الرخوة، وفي الحديث وصفه بأنه ( غدة كغدة البعير ).
وقيل : هو كل مرض وبائي ، وفيه نظر ، لأن الطاعون ورد له أوصاف معينة، وله ثواب معين ، لا يلحق غيره به في جميع الأحكام .
في حديث عبدالرحمن بن عوف مرفوعاً :( إذا وقع بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ).
والعلة في النهي عن الخروج من البلدة التي هو بها فراراً منه تحتمل ما يلي :
١ - أن الأمر تعبدي لا يعقل معناه.
والجواب : أن الأمر يكون تعبدياً فيما لا يمكن إدراك علته من العلماء المجتهدين .
والأصل في الأحكام التعليل .
٢ - العلة شرعية وهي تحقيق صدق التوكل على الله، وتفويض الأسباب إليه، والتسليم لقضائه وقدره وعدم الفرار منه( فراراً منه ) فالعلة منصوص عليها ، بعدم الفرار من مرض الطاعون إذا وقع بأرض وأنت بها - ويترتب على ذلك : عدم مخالفة الصبر المأمور به في هذه الحال، أو خشية وقوع الشرك والتعلق بالأسباب بحيث يظن أن الفرار هو الذي أنجاه أو أن الدخول هو الذي أهلكه ونحو ذلك.
( ففراراً منه ) أنه بعد قضاء الله وقدره بوقوع الطاعون في بلدك ، فلا تفر من قضاء الله وقدره واستلم لما كتب الله لك ، وشبهه بعض أهل العلماء بعدم الفرار إذا التقى الصفان . فالقصد والإرادة لها أثر بدلالة هذه اللفظة .
٣ - خشية انتشار العدوى، أو خشية
ألا يبقى للموتى من يجهزهم وللمرضى من يتعاهدهم ويقوم بأمرهم في البلد المصاب.
وهذا يشكل عليه ( فلا تخرجوا فراراً منه ) فيجوز الخروج بغير نية الفرار .
والجواب عنه : لما كان الطاعون له خصائص لم تكن لغيره من الأمراض المعدية ، كان القول بكون العلة شرعية بما ذكر في العلة الثانية أقرب، وذلك أن من خصائص الطاعون : أن الموت به شهادة ، وانه وخز اعدائنا من الجن ، وأنه لا يدخل المدينة ، ولا يجوز الخروج من البلدة التي وقع بها فراراً منه بخلاف بقية الأمراض الوبائية الاخرى لحديث ( فر من المجذوم فرارك من الأسد )
وفي صحيح البخاري ( لا يوردن ممرض على مصح ).
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ( إنا قد بايعناك فارجع ).
وعليه فإن العلة الثانية ، هي الراجحة ، لدلالة النص عليها ( فراراً منه ) - فراراً من قضاء الله تعالى وقدره بالإصابة بالطاعون أو عدم إصابته - ولما كان للطاعون من الصفات والثواب ما لم يكن لغيره ، فإن له أحكاماً تخصه ، ولا يقاس عليه : كل مرض وبائي معدي .
تنبيه :
١ - إذا نزل وباء معدي ولو كان طاعوناً ، يشرع الدعاء برفعه، وكونه شهادة لا يعني عدم جواز القنوت برفعه، فكل مرض للمسلم يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، مع احتساب الأجر وعدم تسخط صاحبه، ومع ذلك يجوز لمن أصابه أن يدعو الله تعالى بالشفاء منه ورفعه عنه ، قال تعالى عن أيوب( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
وفي الصحيحين عنْ عطاءِ بْن أبِي رباحٍ قال: قال لِي ابْنُ عبّاسٍ: ألا أُرِيك امْرأةً مِنْ أهْلِ الجنّةِ؟ قُلْتُ: بلى، قال: هذِهِ الْمرْأةُ السّوْداءُ، أتتْ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قالتْ: إِنِّي أُصْرعُ، وإِنِّي أتكشّفُ، فادْعُ اللّه لِي. قال: ((إِنْ شِئْتِ صبرْتِ ولكِ الْجنّةُ، وإِنْ شِئْتِ دعوْتُ اللّه أنْ يُعافِيكِ)) فقالتْ: أصْبِرُ، فقالتْ: إِنِّي أتكشّفُ، فادْعُ اللّه لِي أنْ لا أتكشّف، «فدعا لها».
وعلى هذا فإن المرض الوبائي المعدي من النوازل التي يشرع القنوت في رفعها في أدبار الصلوات المفروضة ، وخصوصاً صلاة الفجر ، على أصح قولي العلماء في ذلك ،
٢ - لا يجوز ترك الجمعة والجماعة في المساجد ، إلا غلب على ظنك أيها المكلف أو تيقنت بحصول الضرر به أو بغيره
عند تلك الصلاة بعينها، وكذا فريضة الحج الواجبة . والله تعالى أعلم .
محمد بن سعد الهليل العصيمي / كلية الشريعة / جامعة أم القرى / مكة المكرمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق